كتب :د. عبد الحق عزوزي
حضرت مؤخراً الدورة الثالثة عشرة لحوار الحضارات التي نظمتها مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، في مقر البرلمان الأوروبي ببروكسل تحت رعاية السيد مارتن شولتز رئيس البرلمان الأوروبي. وجمَعت الندوة الفكرية لهذه الدورة مثقفين ومهتمين عرباً وأوروبيين للبحث والتدارس في بعض الموضوعات التي تهم الطرفين في بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.
في ظل ظروف دولية بالغة التعقيد يعاني العالم أجمعه من انعكاساتها السلبية على بني الإنسان في كل بقعة من بقاع الأرض، ولا تكاد تستثني أحداً.
ومؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، هي مؤسسة ثقافية عربية خاصة غير ربحية تقدم خدماتها الثقافية والفكرية في الوطن العربي والعالم الإسلامي، وتُعنى بالشعر والشعراء بموضوع حوار الحضارات والثقافات.. وإيماناً منها بدور الثقافة في تجاوز الانقسام العربي وتوحيد الصفوف، وتأصيل الانتماء للأمة، تمَّ إنشاء مؤسسة “جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري”، وخلال عقدين من الزمن، تمكنت المؤسسة التي ركزت أنشطتها في مجال الشعر العربي، من أن تقدم عشرات الجوائز للشعراء العرب تكريماً وتحفيزاً لهم، وأقامت كثيراً من الندوات الأدبية في الحواضر العربية والأوروبية، ونظمت مئات الدورات التدريبية في مجال اللغة العربية، والعروض، وأنشأت المراكز المتخصصة في حوار الحضارات والترجمة، وتحقيق المخطوطات، بالإضافة إلى تأسيس أول مكتبة متخصصة في الشعر العربي، وإتاحة المجال للآلاف من طلبة آسيا وأفريقيا لإكمال دراساتهم العليا من خلال بعثة سعود البابطين الكويتية للدراسات العليا، ودعمت الكثير من المشروعات الثقافية في الوطن العربي.ومُنشئها ورئيسها الأستاذ عبد العزيز سعود البابطين، وهو رجل العروبة والعلم والسخاء الذي أستحضر فيه نكران الذات ومزاجه الخاص وخفة دمه ومرحه والكلمات المعسولة التي يجد لها دائماً مكاناً في محاورته للآخرين وامتلاكه لأسلوب فن البلاغة قَلَّ نظيره، حيث يمزج الجد بالهزل مما يثير إعجاب الحضور وسامعيه من مختلف الأعمار والجنسيات، وكم من مرة نكون بجانبه ونتمنى أن يطول الحوار، فهو دائماً صاحب مشروع كلام أو كتابة من النوع الدسم والقائم على البحث المعمَّق والتوليد المعرفي المدجّج بالجد والهزل، وهما عنده توأمان، وكلا الأمرين مع عطائه العلمي يصبان في مجرى واحد، هو إظهار مدى قدرة نهر الثقافة العربية على التدفق والدوام. وهو من شجرة طيبة أصلها ثابت وفروعها في الماء جنت منه الإنسانية العديد من الدواوين الشعرية التي لولا إسهاماتها ما عُرف بعض الشعراء العرب، ولغابَ عنا الكثير من فراداتها.. وكلما التقيت به إلا وأجد فيه من السجايا ما لا يُوجد في غيره، ومن غيرته على الوطن العربي والعالم الإسلامي ولغة الضاد ما لا يُعلى عليها، وهو الذي يكتب بأن نهضة أي مجتمع تبدأ حينما يُطلق العقل من عقاله، من أسر المسلَّمات، والأجوبة الجاهزة، واليقين المطلق، وحين يتخلى الإنسان عن اقتفاء الأثر، والإيمانلأعمى، عندما يمارس العقل وظيفته التي خُلق لها: “التفكير”، فيدخل في حوار مع الكون المحيط هدفه الكشف عن أسرار هذا الكون وتسخيره لمصلحة الإنسان، هذا ما طالَبنا به كتابنا المقدس حين أمرنا بالتفكُّر في هذا الكون المدهش: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً} (سورة آل عمران 191) وحثّنا على السير في أرجاء الأرض والتأمل في بدايات الخلق لا في خواتيمه ليدرك الإنسان سيرورة الوجود: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} (سورة العنكبوت 20)، ولا يكتمل إيمان المسلم ما لم يُدرك عظمة هذا الإبداع الإلهي الذي يتجلى في كل مظاهر الوجود: من الزهرة الناضرة، إلى الغيمة الشاردة، إلى النجم الثاقب، فكل كائن له وظيفته في هذا الكون الهائل، ولكل كائن كيانه الخاص ومساراته التي فُطر عليها، وعلاقتنا بهذا الكائن لا تأخذ أبعادها المثمرة ما لم نتفهم بنيته الداخلية، وعلاقاته بمحيطه. إن الأساس في نهضة أي مجتمع ليس الموارد التي يمتلكها مهما كانت وفرتها، بل في استخدام العقل وإطلاق إمكاناته المدهشة، فهو الذي بإمكانه أن يفك شفرة هذا الكون، ويجعل من الطبيعة كتاباً مقروءاً، وهو الذي حوّل الإنسان من قاطف للثمر وصائد للحيوانات إلى زارع وصانع، أي من متكئ على ما تقدمه الطبيعة له، إلى مكتشف لثرواتها الكامنة.. من متَّبع يكرر نفسه، إلى مبدع يتجاوز نفسه ومحيطه في كل لحظة.. وإبداع الإنسان يتمثَّل في اتجاهين: الإبداع العلمي، والإبداع الثقافي، فالعلم والثقافة مكونان أساسيان لأي حضارة إنسانية.. والعلم بما يوفره للإنسان من قدرة متزايدة، ومن ثراء مادي، قد يميل بالإنسان إلى الغرور، والانتشاء بالقدرة المتزايدة والثروة ليوظفهما في التّعالي على الآخر ومحاولة تهميشه واستغلاله، فيتحوَّل العلم بذلك إلى قوة عدوانية مدمرة.. أما الثقافة فهي القوة الناعمة التي تتغلغل بلطف في أحشاء الكون لتصغي إلى نبض الكائنات وصوتها الخفي، وتكشف حقيقتها المستورة.
أكتب كل هذا الكلام، ونحن قد أنهينا نهاية الأسبوع الماضي الدورة العاشرة لمنتدى فاس حول تحالف الحضارات والتنوع الثقافي والشراكة الأورو متوسطية في موضوع: “عن المستقبل العربي المنشود: نحو خطة عمل لإصلاح منظومة التربية والتعليم والبحث العلمي” فاس، 22 – 23 نونبر 2013 وفي كل ندوة أنظمها أخرج بنتيجة وهي أن الحضارات لا تتحاور فيما بينها، وإنما ممثلو تلكم الحضارات هم الذين يتحاورن فيما بينهم وهم الفاعلون الحقيقيون وشرحنا مراراً هاته المسلَّمات في صحيفة الجزيرة الغراء فلا يتصور انطلاقاً من الرؤى المرجعية الإسلامية أن يتصارع الدين الإسلامي مع الدين النصراني أو الدين المسيحي، أو أن تتصارع الثقافة الإسلامية مع الثقافة الأمريكية أو الفرنسية أو غيرها، بل يُمكنها أن تتعايش على أساس التعارف والاعتراف المتبادل بالمصالح المختلفة والاهتمامات المتعددة والانفصال القيمي والمفهومي، والانزلاق الكبير والمتعمد هو تحميل عبء الأوضاع المزرية التي تعرفها مناطق متعددة إلى الخصوصيات الحضارية أو الثقافية أو الخصوصيات الدينية أو على هذه الخصوصيات مجتمعة.
فالمشكل إذن، ليس في الحوار الإسلامي – المسيحي أو الإسلامي – اليهودي أو الإسلامي- المسيحي – اليهودي حصراً، ولكن الحوار هو أعم من ذلك وأشمل، إذ يقتضي الكليات والجزئيات في الدين والسياسة والاقتصاد والثقافة والميادين الاجتماعية، فإذا كانت القيم الحضارية والقواعد المشتركة الإنسانية هي لبنات كل حوار مثمر وفعاَّل، فإنَّ في القيم الدينية المشتركة بين الإسلام وغيره من الديانات السماوية ما يمكن لفتح الطرق أمام التجاوب والتعارف، وفي القيم الحضارية المشتركة ما يسمح لها أن تعيش في وئام ووفاق، فإقناع الآخرين بتسامح ديننا وصلاح حضارتنا وثقافتنا ودفعه إلى الاعتراف بخصوصيتنا أو الاقتناع بتسامح الديانات السماوية الأخرى وصلاح الثقافات والاعتراف بخصوصيتها، ليس هدفاً كاملاً وشاملاً للحوار، صحيح أنه ضروري للتعارف والتفاهم مما يقرِّب الأفكار والمسافات ولكنه ليس إلا جزءاً من الحوار العام، إذ يجب الارتقاء بمستوى الحوار من الحوار الديني أو الحضاري أو الثقافي إلى الحوار العالمي، أي تحليل وإصلاح كل الوقائع بما فيه نظام العلاقات الدولية والنظام العالمي من كل وجهات النظر.
لذا، نفهم جلياً جدوى تخصيص دورة البابطين لهاته السنة لموضوع: “الحوار العربي الأوروبي في القرن الحادي والعشرين.. نحو رؤية مشتركة”، وتخصيص منتدى فاس لدورته العاشرة عن تحالف الحضارات والتنوع الثقافي والشراكة الأورو متوسطية في موضوع: “عن المستقبل العربي المنشود: نحو خطة عمل لإصلاح منظومة التربية والتعليم والبحث العلمي”.
نقلاً عن جريدة الجزيرة – السعودية.