صدور المجلد العشرين… من نوادر البابطين (3-3) – خليل علي حيدر

يرى مؤلف كتاب “المدخل إلى دراسة النحو العربي” أن من المؤسف “أن يتغافل النحاة العرب القدماء عن اللغات السامية”، فلماذا وقع هذا التجاهل من النحاة العرب لهذه المجموعات اللغوية القريبة؟ يقول المؤلف “عبدالمجيد عابدين” المدرس بكلية غوردون بالخرطوم إن ثمة انحيازاً عرقياً لهذا التجاهل، ويرجع عابدين “سبب التغافل إلى أن مؤسس النحو هو “سيبويه” وهو من أصل فارسي، واللغة الفارسية من فصيلة اللغات الهندية- الأوروبية، وهي تختلف كليا عن اللغات السامية، كما أن التعصب الديني كان له أثره، إذ إن اللغات السامية كانت لغات لأقوام نصارى أو وثنيين”. (ص213)

ولم يكتف “عابدين” بنقد “سيبويه” والنحاة في تغافلهم عن اللغات السامية، بل يظهر أخطاء الدراسة النحوية القديمة كإخضاع اللغة للمنطق، وقطع الصلة بين اللغة ونفسية صاحبها إلى جانب أن النحويين في العراق مثلا كانوا شيعاً وأحزاباً، وكان للعصبيات أثر في التفريق بين العلماء وآرائهم، ويضيف منتقداً النحاة: “ومن أخطاء الدراسة النحوية القديمة عناية القدماء بأحوال أواخر الكلمات إعراباً وبناء، وكأن النحو هو العلم بأحوال أواخر الكلمات”.

وأخذ المؤلف على قدماء النحاة “حصرهم الاستشهاد بالجاهليين والمخضرمين واختلافهم في المتقدمين من صدر الإسلام ورفضهم الاستشهاد بالمولدين مما أفقر اللغة وحرمها الكثير من الألفاظ والتعابير، كما اختلفوا بالاستشهاد بقراءات القرآن وبالحديث النبوي”. ويضيف عابدين أن “من عيوب الدراسات النحوية القديمة طغيان النظر الفقهي على الدراسة النحوية”.

(في المعجم الوسيط: المولّد: المحدث من كل شيء، ومنه المولدون من الشعراء، والمولّدون من الرجال: العربي غير المحض. والمولّد من ولد عند العرب ونشأ مع أولادهم وتأدب بآدابهم، والمولّد من الكلام: كل لفظ كان عربي الأصل ثم تغير في الاستعمال. ويقال كتاب مولّد: مفتعل).

ورغم أن “عابدين” مؤلف الكتاب، من دعاة كتابة العربية بأحرف لاتينية كما التركية اليوم مثلاً، إلا أن ملاحظاته وانتقاداته جديرة بالدراسة إن أردنا للغة العربية مجاراة العصر وشدة الانتشار، وفي مقدمة المطلوب تحديث قواعد النحو والإملاء والبلاغة! ومن القضايا اللغوية التي قد تثار الفرق بين اللغة واللهجة، فما تعريف كل منهما إذا أجمع المؤرخون واللغويون وغيرهم على أن القرآن الكريم قد “نزل بلهجة قريش”؟ غير أن في كلام عابدين شيئا من التناقض في مسألة علاقة القرآن باللغة العربية و”لهجة قريش”. فالمفروغ منه مبدئياً ولغوياً أن “اللهجة” أقل مكنة وكمالاً من “اللغة”، فهل كان حديث وتفاهم أهل قريش بلهجة قبلية أم بلغة عربية راسخة القواعد والمعاني؟

يقول عابدين: “تعد اللغة العربية هي الأكمل والأقرب إلى الأصل”، ويرى أن اللغات السامية متقاربة في الألفاظ والتراكيب مما يدل على نشوئها من أصل واحد، والعربية أقرب اللغات السامية إلى هذا الأصل، ويضيف: “وظهرت اللغة العربية على مسرح التاريخ وهي لغة ناضجة، وقد أصبحت لغة قريش هي اللغة الأدبية التي اتخذها العرب والخاصة كافة ونزل بها القرآن الكريم، وبقيت لهجات القبائل الى جانب لهجة قريش”، ويرى المؤلف “أن على الباحث عند دراسة لغة قريش، وهي اللغة الفصحى، أن ينظر إلى مقارنتها باللهجات القبلية الأخرى وباللغات السامية”، ويضيف: “إن الباحثين القدماء لم ينظروا الى تأثر لهجة قريش باللهجات القبلية الأخرى، ولم يدرسوا اللهجات القبلية المختلفة لبيان خصائص كل لهجة”، ولكن كيف يعقل أن تكون اللغة العربية قد “ظهرت على مسرح التاريخ وهي لغة ناضجة”؟

يقول “المعجم الوسيط” في تعريف اللغة “أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم”، ويقال: “سمعتُ لغاتهم: اختلاف كلامهم”.

وتعريف اللهجة: “اللسانُ، أو طرفه، ولغة الإنسان التي جُبل عليها فاعتادها”. يقال: فلان فصيح اللهجة، وصادق اللهجة، واللهجة: طريقة من طرق الأداء في اللغة، واللهجة: جرس الكلام”. ويقول “المنجد” في تعريف “اللهجة” أنها “اللسان أو طرفه، ولغة الإنسان التي جُبل عليها واعتادها”.

ونتساءل من جديد: ما اللغة وما اللهجة؟ وما الفرق بينهما؟ ولماذا تعد اللغة الفصحى لغة وكلام الناس اليومي في الدول العربية لهجات، بينما كان نزول القرآن الكريم “بلهجة” قريش؟

بدأنا المقال بالحديث عن شاعر من القدماء، “زهير بن أبي سلمى”، وننهيه كذلك بالحديث عن شاعرين معاصرين! ففي مجموعة “نوادر النوادر من الكتب” عرض لكتاب بعنون “شاعران معاصران: إبراهيم طوقان وأبو القاسم الشابي”، وهو من تأليف د. عمر فروخ الذي وضع أكثر من 70 كتاباً، واشتهر بكتابه “العلوم عند العرب” وللأول، أي إبراهيم طوقان قصائد في الغزل والوطنية والرثاء وموضوعات أخرى، وهو صاحب قصيدة “موطني” التي اختيرت تقريباً كنشيد وطني للعراق بعد إسقاط النظام سنة 2003، أما الشاعر الثاني، أبو القاسم الشابي فقد اشتهر ببيتين من الشعر شديدي الرواج والتأثير وهما “إذا الشعب يوما أراد الحياة… إلخ”.

وقد ولد طوقان عام 1905 وتوفي عام 1941 عن عمر قصير وتقول موسوعة “الأعلام” للزركلي عنه إنه كان من أهل نابلس بفلسطين، وقال فيه أحد كتابها إنه “عذب النغمات، ساحر الرنات، تقسم بين هوى دفين، ووطن حزين”، وتضيف “الأعلام” أن إبراهيم تعلم في الجامعة الأميركية ببيروت، وبرع في الأدبين العربي والإنكليزي، وانتقل إلى بغداد مدرساً، وكان يعاني مرضا في العظام، فأنهكه السفر فتوفي شاباً، وكان وديعاً مرحاً، ولأخته الشاعرة “فدوى طوقان” كتاب في سيرته سمته “أخي إبراهيم”، ويذكر عنه في عهد دراسته ببيروت “أنه أراد الزواج بفتاة استلهمها فواتح شعره، فتزوجت بقريب لها”. (الأعلام، خير الدين الزركلي، 1954).

ويقول المرجع نفسه، “الأعلام” عن أبي القاسم الشابي إنه شاعر تونس، في شعره نفحات أندلسية، ولد في قرية “الشبابية” في الجنوب عام 1906 ومات شابا عام 1934 بمرض الصدر ودفن بقريته، تقول المراجع إن أباه كان شاعراً أيضا توفي قبل ابنه بخمس سنوات.

ويبدأ د. فروخ القسم الأول من كتابه عن الشاعرين بإبراهيم طوقان وذلك “بترجمة للشاعر يتناول فيها المؤلف عائلته وأسلافه، ومولد الشاعر في نابلس 1905 ونشأته الأولى والأمراض التي انتابته، والدراسة التي تلقاها في بلدته، ثم في القدس ثم في الجامعة الأميركية ببيروت، ثم عمله مدرساً في مدرسة النجاح في نابلس، ثم أستاذاً في الجامعة الأميركية ببيروت، ثم في المدرسة الرشيدية في القدس، ثم يتحدث المؤلف عن علاقات إبراهيم الغرامية، ثم زواجه من فتاة فلسطينية ثم عمله في الإذاعة الفلسطينية، ثم انتقاله الى بغداد للعمل في التدريس، وأخيراً يتحدث عن وفاته وتشييعه ورثائه”.

(نوادر النوادر ص267)

و”يعرض المؤلف لخصائص شعر الشابي، ويذكر أن الشابي شاعر وجداني خالص، وهو على صغر سنه شاعر مكثر مجيد، وفي شعره نزعة من التحرر من العرف السائد في بيئته، وتتصف قصائده بوحدة الموضوع، وبالميل الى النقمة على مجتمعه، والتشاؤم وهو متأثر بأدب المهجر، وأورثه هذا التأثر كثرة التكرار للألفاظ والتراكيب والمعاني، وهو مغرق في استعارته مما يؤدي به الى الغموض”.

ويضيف د. فروخ أن “قصائد الشابي في السياسة والقومية هي التي أكسبت الشابي شهرته، وهي مزيج من الأسلوب القديم والحديث، وفي موضوع التأمل في الحياة، يرى المؤلف أن نظرة الشابي إلى الحياة كانت تشاؤما محضاً”. (ص269)

والى لقاء قادم مع المجلد 21 من مجموعة “نوادر النوادر من الكتب”.

صدور المجلد العشرين… من نوادر البابطين (2-3) – خليل علي حيدر

يعرض كتاب “نوادر النوادر”، المجلد 20 الصادر من مكتبة عبدالكريم البابطين ضمن الكتاب الثمانين في المجلد، مرجعاً مهماً في الفنون وهو “كتاب مؤتمر الموسيقى العربية “الصادر عن وزارة المعارف المصرية سنة 1933، من تأليف “محمود الحفني” المتوفى سنة 1973، وهو متحدر من أسرة دينية، حيث كان والده من علماء الدين وجده شيخاً مولعاً بالشعر والزجل، وبعد حصوله على الشهادة الثانوية أوفد إلى ألمانيا لدراسة الطب فاستهوته الموسيقى، وترك الطب ودرس الموسيقى في جامعة برلين، ونال منها درجة الدكتوراه، وعندما عاد إلى مصر أنشأ المعهد العالي للتربية الموسيقية، وأصدر مجلة الموسيقى، ومن مؤلفات محمود “موسيقى قدماء المصريين” و”الموسيقى النظرية” و”تاريخ الآلات الموسيقية”. كان أبرز اهتمامات هذا المؤتمر إرساء النوتة والسلم الموسيقي والتنسيق بين توجهات الموسيقيين في العالم العربي.

وتقول المراجع إن سلم الموسيقى الأوروبي المستعمل في آلة البيانو يتحدر أصلا عن السلم الفيثاغوري القديم- نسبة إلى الفيلسوف اليوناني، ت 507 ق.م- والذي كان يرى أن جوهر الأشياء هو العدد، وأن الجانب الكمي هو لب الحقيقة، وأن أنغام الموسيقى في جوهرها أعداد، أي أطوال الموجات الصوتية، وكان يرى أن الغاية من تعلم الرياضيات والموسيقى هي بلوغ الانسجام بين الروح والجسد، وقد قامت على فلسفته حركة دينية فكرية نشطت بالاسكندرية… إلخ.

ويقول الموسيقيون إن “أنغام هذا السلم لا تصلح لمصاحبة الألحان العربية، وتم الاعتماد على “سلم الموسيقى العربية” بسبع نغمات أساسية مثل يكاه دوكاه وسيكاه وجهاركاه… ويصل مجموع عدد النغمات المستعملة على الأكثر جميعاً إلى 19 نغماً، مع وجود آراء أخرى تزيد العدد”. (الموسوعة العربية الميسرة، مجلد3، ص 1363).

ومن الممكن مثلا الاستماع الى موسيقى وسيمفونيات بيتهوفن وتشايكوفسكي وغيرها، وموسيقى القرن الثامن عشر والتاسع عشر، بسبب وجود النوتات الموسيقية والتسجيل الكتابي للألحان، ولكن هل هناك نوتات للموسيقى العربية في العصر الأموي والعباسي والأندلسي؟ وللموسيقى الإيرانية والتركية والهندية وغيرها؟ العلم عند علماء الموسيقى!

في مذكرة مرفوعة إلى مجلس الوزراء، ذكر وزير المعارف المصري سنة 1932 ما يلي: ” تقدم إلينا معهد الموسيقى الشرقي برجاء العمل على عقد مؤتمر للموسيقى العربية يكون من جملة أغراضه تنظيم هذه الموسيقى على أساس متين من العلم والفن تتفق عليه جميع البلاد العربية، وبحث وسائل تطور الموسيقى العربية، وإقرار السلم الموسيقي، وتقرير الرموز التي تكتب بها الأنغام، وتنظيم التأليف الناطق والصامت، الغنائي والآلي، ودراسة الآلات الموسيقية الصالحة، وتنظيم التعليم الموسيقى، وتسجيل الأغاني والأنغام القومية في كل هذه الأقطار”.

وأضاف وزير المعارف المصري قائلاً في مذكرته المرفوعة إلى رئيس الوزراء: “وقد تفضل جلالة الملك على هذا المعهد فشمله برعايته السامية، ووألاه جلالته بفضله العظيم وإرشاده الحكيم، حتى وصلت جهوده إلى مرحلة رأى جلالته أنها تؤهل لعقد مؤتمر موسيقي يدرس هذه المسائل”. وفي ختام المذكرة طالب الوزير بإقرار عقد المؤتمر “في شهر مارس المقبل”.

(نوادر النوادر من الكتب، 20، ص64).

ويضم كتاب “مؤتمر الموسيقى العربية” بابين يبحثان في المسائل الإدارية والفنية، وضمن مشتملاتها قصيدة لأمير الشعراء أحمد شوقي، والمقابلات الملكية، “حيث سيحظى رؤساء اللجان ومندوبو الدول بالتشرف بمقابلة الملك فؤاد، وإلقاء كلمة من أحد المدعوين أمام الملك”.

ويبدو مما ورد بتعريف محتويات الفصل الثاني أن بعض البحوث قد شملت مختلف ميادين الموسيقى العربية فمثلا، ثمة “تقرير عن التأليف الغنائي، وتقرير عن الموسيقى المغربية الأندلسية الأصل، وتقرير خاص بالنوتة الأندلسية على حسب المتبع في البلاد التونسية، وفي البلاد الجزائرية، وتقرير عن الإيقاعات المستعملة في مصر وتحليلها ونماذج تلحينية عليها، والإيقاعات المستعملة في تونس ومراكش والجزائر، كما يحتوي الفصل الثاني على لجنة السلم الموسيقي، ولجنة التعليم الموسيقي، ولجنة تاريخ الموسيقى والمخطوطات، ولجنة الآلات، ولجنة المسائل العامة”.

(نوادر النوادر، 20، ص64)

ومن كتب تاريخ الصحافة العربية يعرض المجلد “تطور الصحافة المصرية” للدكتور إبراهيم عبده، 1945، ويعتقد البعض أن “الأهرام” أقدم صحف مصر اليومية، إلا أن الكتاب يقول إن عدة صحف سبقتها، ذلك “أن أول صحيفة شعبية صدرت في مصر كانت مجلة “السلطنة” سنة 1857م وأشرف عليها إسكندر شلهوب وهي تدافع عن سياسة الدولة العثمانية، ثم صدرت سنة 1866م جريدة “وادي النيل” وأشرف عليها أبو السعود أفندي لتعبر عن مجلس شورى النواب، وفي سنة 1869م أصدر إبراهيم المويلحي وعثمان جلال مجلة “نزهة الأفكار” وهي أسبوعية، وفي سنة 1875م أنشئت جريدة “روضة الأخبار” وصدرت جريدة “الأهرام” لسليم تقلا في السنة نفسها، وأشرف على معظم الصحف الشعبية جماعة من السوريين، وظهرت الصحف الشعبية أول ما ظهرت مماثلة للصحافة الرسمية مفتقدة لأهم عناصر الشعبية فيها وهي المعارضة والنقد”. (ص137)

ومن الكتب المعروضة في المجموعة “الغزل عند العرب” من تأليف “حسان أبو رحاب”، 1947، ويدافع المؤلف عن “أثر الغزل” فيقول: “لا يخفى ما في الغزل من آثار كريمة تهذب النفس وتصقل الحس، وتوقظ الهمم”، فمن آثار الغزل المرغوبة “ترقيق الحس، وسعة الحيلة لأن نيل إعجاب المرأة يتطلب الفطنة والذكاء، ويتطلب أيضاً الحيلة والدهاء، والغزل يغرس في النفس الطموح، ويعلم الإنسان التضحية وتحمل المتاعب، كما يعلم المحب الصبر”. (ص149)

ومن كتب المجموعة “المدخل إلى دراسة النحو العربي على ضوء اللغات السامية”: و”الساميون مصطلح يقولون إنه اشتق من اسم سام بن نوح، يطلق على الشعوب الآتية: العرب، والأكاديين من قدماء البابليين، والآشوريين والكنعانيين وهم: (الأموريون، والمؤابيون، والأدوميون، والعمونيون، والفينقيون)، والقبائل الآرامية المختلفة (بما فيها اليهود) وجزء كبير من سكان إثيوبيا. ويقولون إن لغاتها قاطبة تحدرت من أصل واحد، وهناك شبه في مظاهر حياة الساميين. ويقال إن شبه جزيرة العرب هي الموطن الأصلي للساميين، ومنها تمت هجرات متتالية الى بلاد ما بين النهرين، ومنطقة شرقي البحر المتوسط، ودلتا النيل. ونتج عن هذه الهجرات خلال الفترة الزمنية خليط من القبائل التي كلما انتقلت من مكان إلى آخر اتصلت وامتزجت بأسلاف الساميين وغير الساميين”. (الموسوعة العربية الميسرة).

يتبع غداً ،،،

صدور المجلد العشرين… من نوادر البابطين (1- 3) – خليل علي حيدر

مجلدات “نوادر النوادر من الكتب” التي تصدر بانتظام عن “مكتبة عبدالكريم سعود البابطين” في الكويت، حيث صدر منها المجلد 20 في يناير الماضي 2021، ستكون حتماً موسوعة تلخص زبدة الثقافة العربية المطبوعة في القرن 19 و20، تقدم خلاصة شيقة لنوادر الكتب التي أخرجتها دور الطباعة العربية في القاهرة وبيروت خاصة، وفي سورية والعراق والجزيرة العربية وأوروبا ضمن الجهد الاستشراقي وكذلك الهند بشكل عام.

هذا النشاط التوثيقي الذي تقوم به مكتبة البابطين المركزية للشعر العربي دون انقطاع رغم كل الصعوبات، جهد ثقافي استثنائي وخدمة نادرة المثال للثقافة والمكتبة العربية، لما في إعداد هذه المجلدات الفاخرة من جهد، وما في إخراجها وطباعتها وتجليدها من تكلفة ومن تقدير للمحتوى الفكري فيها، وهكذا تشمل مكتبة البابطين النثر العربي برعايتها كذلك، إلى جانب ما قدمت من خدمات جليلة للشعر العربي.

“إن أفضل وسيلة لتعميم السلام وترسيخة بين البشر نشر الثقافة بمعناها الواسع التي تتضمن كل أنواع المعرفة”، يقول عبدالكريم سعود البابطين في “تصدير” المجلد 20 من المجموعة، وتحاول مديرة المكتبة السيدة “سعاد العتيقي” في المقدمة للكتاب الذي يعرض 80 عنواناً من نوادر النوادر من المطبوعات العربية، تذكير القارئ بالهوية المحورية للمؤسسة، أي نشر التراث الشعري العربي، فتقول عن محتويات هذا المجلد، في هذا العدد من مجلدات المجموعة كذلك “حضور مميز للشعر ونقده والتعريف بأعلامه”.

ومن النوادر التي يعرف بها هذا المجلد مثلا طبعة “لايبزيغ” الألمانية سنة 1826 من معلقة “زهير بن أبي سلمى” الشاعر المتوفى عام 609 ميلادية، سنة 13 قبل الهجرة، وعرف بأنه حكيم الشعراء قبل الإسلام، وقد “نشأ في عائلة تهتم بالشعر، فأبوه شاعر، وخاله شاعر، وأخته سلمى شاعرة، وابناه كعب وبجير شاعران، وكان ينظم قصيدة في شهر ويهذبها في سنة، فكانت قصائده تسمى “الحوليات” وهو الشاعر الذي لخص في بيت من الشعر عمق مأساة الوجود الإنساني في التعامل مع الموت والشيخوخة… أيهما أسبق!

رأيت المنايا خبط عشواء من تُصب

تمته ومن تخطئ يعمّر فيهرم.

في مختارات المجلد 20 اهتمام خاص بكردستان، وتلفت المقدمة النظر إلى وجود كتابين عن الكرد، أحدهما من أقدم المؤلفات التي عرّفت بالأمة الكردية وبدورها في التاريخ والدول والإمارات التي أقامتها، وهو كتاب “شرفنامة”، لمؤلفه الكردي “شرف خان البدليسي” الذي ألفه بالفارسية في القرن 16م، ثم تُرجم إلى العربية.

وفي المجال نفسه، يقدم المجلد “تاريخ الدول والإمارات الكردية في العهد الإسلامي، المترجم عن الكردية في مصر 1945 من تأليف محمد أمين زكي الوزير العراقي عام 1937، وفي الكتاب صورة واسعة التداول “للسلطان صلاح الدين الأيوبي بطل الإسلام والكرد”، ويقول الكتاب عن أصل الصورة بالعمامة التي تشبه التاج، أنها مسيحية! وأنها مأخوذة من مجلة كردية شهرية صادرة في استنبول بتركيا سنة 1913.

“وقد دل البحث على أن الأصل في صورة صلاح الدين المنشورة في أرجاء العالم حتى الآن هو ما نقل من كتاب روسي مأخوذ من دير قديم بمصر، ويدل بيتان من الشعر على أن المسيحيين في ذلك العهد رسموه ووضعوا رسمه في الكنائس”، ويقول “حكيم الزمان عبدالمنعم الأندلسي” الذي هبط مصر في عهد صلاح الدين ونظم القصائد في مدحه، ويقول عن المسيحيين:

فحطوا بأرجاء الكنائس صورة

لك اعتقدوها كاعتقاد الأقانم (ص160)

وقد حاولت أن أصل إلى تعريف من قاموس “المنجد” الصادرة عن المطبعة الكاثوليكية، لكلمة أقنوم المسيحية وجمعها أقانيم كما في الشعر السابق، وهي تعني الجوهر والأصل والشخص، ويقول المعجم الوسيط إن الكلمة “تستعمل عند المسيحيين العرب للدلالة على الثالثوث الأقدس”، ودهشت لخلو قاموس المنجد من تعريف كلمة “أقنوم” و”أقانيم”، على كثرة ورودها في النصوص المسيحية، ولم أجدها في الطبعات القديمة، عام 1951 وما قبلها كذلك، وحتى طبعة 1986، ولم أجدها إلا في “المنجد في اللغة العربية المعاصرة” الصادرة عام 2001، ومن المعروف أن على المنجد للأسف مآخذ وملاحظات كثيرة.

نعود الآن الى مجلد “نوادر النوادر من الكتب” 20، حيث يتضمن المجلد مرجعاً فقهياً مطبوعاً كذلك في نفس المدينة الألمانية “لايبزيغ” عام 1925 بالعربية والفرنسية بعنوان غير مألوف وهو “السير من كتاب القدوري في الفقه”، فمعنى “السير” في المعجم الوسيط “من الجلد ونحوه: ما يُقدّ منه مستطيلاً، أي ما يُقص منه على نحو مستطيل، وجمعها “سيور”، وهي كلمة متداولة في الفصحى والعامية، ولكن ما علاقة السير والسيور بكتاب في الفقه؟ فهل المراد “ملخص” أو “لمحة” مثلاً؟ متروك للباحثين.

كتاب القدوري “أحمد بن محمد بن أحمد البغدادي” المتوفى سنة 428هـ 1037م في الفقه يعرض مجلد النوادر بعض محتوياته فيقول: “يبين المؤلف أن الجهاد فرض على الكفاية”، ولكنه يؤكد أن “قتال الكفار واجب وإن لم يبدؤوها”! و”إذا فتح الإمام بلدة عنوة فهو بالخيار، إما أن يقسمه بين جنوده، وإن شاء أقر أهله عليه ووضع عليهم الخراج”، ويقول: “اختلف الرأي في أسرى الكفار، فأبو حنيفة يمنع مفاداتهم، بينما أجاز أبو يوسف- تلميذ أبي حنيفة- مفاداتهم بأسرى المسلمين”. ثم يضيف الفقيه البغدادي: “وللإمام الخيار في قتل الأسرى، أو استرقاقهم، أو تركهم أحراراً في ذمة المسلمين”.

وفي الجزية يقول: توضع الجزية على أهل الكتاب، وعلى المجوس، وعبدة الأوثان من العجم، ولا توضع على عبدة الأوثان من العرب ولا المرتدين، ولا جزية على امرأة، ولا صبي ولا أعمى، ولا على الرهبان”، وعن الردة يقول: “وفي ارتداد المسلم عن دينه يعرض عليه الإسلام ويحبس ثلاثة أيام فإن أسلم وإلا قُتل، ويزول ملك المرتد عن أمواله، وأما المرأة إذا ارتدت فلا تُقتل، ولكن تحبس حتى تسلم”.

ويعرض الكتاب الفهقي “شروط الخليفة عمر بن الخطاب على أهل الذمة وهي: “أن لا يحدثوا بيعة ولا كنيسة في دار الإسلام، وأن لا يجددوا ما انهدم، ولا يقصروا في ضيافة المسلمين، وأن لا يتجسسوا على المسلمين، وأن لا يمنعوا من أراد الإسلام من أقاربهم، وأن لا يتشبهوا بالمسلمين في لباسهم وأسمائهم، وأن لا يركبوا على فرس مسرج وملجم، ولا يحملوا السيوف، وأن لا يبيعوا الخمر، وأن لا يشتروا عبيداً مسلمين، وإن لم يفعلوا ذلك حل دمهم”. (ص13)

تشير كتب الفقه المعروفة إلى هذه الشروط، فهل في الفقه الإسلامي المعاصر أية رؤى جديدة؟ لا تزال الكتب الفقهية من جانب آخر تردد نفس الشروط بدرجات مختلفة من الصراحة والغموض.

وينبغي الانتباه في هذا المجال إلى اختلاف الاجتهاد “الفقهي” الذي لا جديد فيه اليوم تقريباً، و”المعالجة الإعلامية والسياسية” لحقوق “أهل الذمة”، والتي تروج عادة الاعتدال وبعض التسامح، في ما يخدم قضايا الإسلام السياسي والصورة السياسية والدعائية لبعض جماعاته وبخاصة الإخوان المسلمين، الذين يمكن الخروج بأكثر من رؤية من كتبهم وإرشاداتهم و”فقه الضرورة” وغير ذلك.

وتعالج “الموسوعة الفقهية الميسرة”، بيروت 2000، لأستاذ سابق بارز في كلية الشريعة، بجامعة الكويت د. محمد رواس قلعة جي (1934-2014) أوضاع أهل الذمة بكثير من الصراحة مع المزيد من المخاوف والتحفظات على الشروط الفقهية المعروفة.

فيقول عن منح المسيحيين واليهود الحرية في المجتمعات العربية ما يلي: “منحهم الحرية: وتشتمل هذه الحرية: حرية ممارسة شعائرهم الدينية، وإقامة دور العبادة الضرورية لذلك، دون زيادة ولا توسع- فيما أرى- وحرية التنقل والإقامة في أي بلد يريدون، إلا أن تقتضي المصلحة بعدم إقامتهم في مكان معين، فيمنعون من الإقامة فيه، ومن ذلك منعهم من الإقامة في الجزيرة العربية، وفي الثغور التي هي على تماس مع العدو، وحرية التعليم، وحرية العمل، ما لم يكن هذا العمل مضرا بالأمة، فيمنعون منه”.

(الموسوعة، ج1، ص 913)

وعن “واجبات أهل الذمة” يراها في 8 نقاط:

“أ- عدم الإقامة إقامة دائمة في الجزيرة العربية.

ب- دفع الواجبات المالية المترتبة عليهم، كالجزية ونحوها.

ج- عدم اقتناء السلاح أو صنعه أو حمله.

د- عدم الاتصال أو التعاون مع أحد من أهل الحرب، فرداً كان المتصل به أو هيئة رسمية.

هـ- عدم إقامة تكتل ديني طائفي، كحزب سياسي، أو منتدى أدبي خاص بهم، ونحو ذلك، لأن هذا يعوق انصهارهم في المجتمع الإسلامي.

و- احترام المقدسات الإسلامية، كالمصاحف والمساجد وكتب الحديث والتفسير ونحوها، وعدم إهانتها.

ز- عدم استئجار الذمي المسلم لخدمته الشخصية، لما في ذلك من المهانة للمسلم، قال تعالى في سورة النساء 141 “ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا”.

ح- عدم الإضرار بالمسلمين بأي وجه من وجوه الإضرار بهم، كتنجيس المياه التي يستعملونها، أو نشر الفساد بينهم، ونحو ذلك”. (الموسوعة، ص 914)

ولا مجال للاستمرار والتوسع في مناقشة المزيد من التفاصيل، حيث نال نصيبه من النقاش في مقالات سابقة، ويكفي أن نقول إن العالم الإسلامي لا يمكن أن يتقبل بعض هذه القيود على حرية المسلمين في أوروبا وأميركا وغيرها.

يتبع غداً،،،

مجلة البابطين الثقافية الالكترونية
%d مدونون معجبون بهذه: