منذ أيام طرح أستاذ العلوم السياسية بجامعة كيب جورج تاون بالولايات المتحدة ومدير برنامج الشرق الاوسط وأمن الخليج بالمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية بلندن د. مأمون فندي، الذي عاش تجربة طويلة في المجتمع الغربي سؤالا موجها لمجتمعه الشرقي على حسابه بتويتر يقول فيه: لماذا لا ينمو أدب الاعترافات الشخصية testimonial في تربة الثقافة العربية؟ هل يمكننا أن نناقش منظومة العوائق بأمانة وتجرد؟

يبدو السؤال مشروعا: لماذا لم تقطع الثقافة العربية شوطا كبيرا في مجال أدب الاعتراف على غرار الثقافة الغربية كما فعلها جان جاك روسو وأوسكار وايلد وأندريه جيد مثلا؟ فالثقافة العربية تفتقد إلى مثل هذه الاعترافات إلا من محاولات تمثل الاستثناء الذي يثبت القاعدة مثل كتابات محمد شكري ورسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان ورؤوف مسعد، ما الذي يمنع الكاتب العربي من خوض هذا الغمار؟ سلطة الدين أم سلطة المجتمع؟ لماذا تعتبر كل محاولة في ادب الاعتراف بمنزلة «الجرسة» او «الفضيحة» يشار بها في وجه المعترف العربي ولا يتم وضعها في خانة الشجاعة الأدبية، التحقيق التالي يبحث عن إجابات.

سلطة المجتمع

في الردود التي جاءت على سؤال د. فندي، قال أحدهم إن سلطة المجتمع العربي أقوى من سلطة الدين، بينما ألمح آخر إلى الثالوث المحرم (العيب والممنوع والحرام)، وتحدث البعض عن المجتمع العربي المغلق، بينما تحدث الكاتب المصري إبراهيم عبد المجيد عن محاولة محمد شكري في «الخبر الحافي»، وأكد عبدالمجيد أن مذكرات الأدباء والفنانين الغربيين تصدر مدهشة ورائعة بينما رأى أن أدب الاعتراف عربيا أشبه بالتربية الوطنية.

الروائي والقاص طالب الرفاعي يشير إلى وجود محاولات عربية يمكن إدراجها ضمن أدب الاعتراف، سواء في الرواية أو القصة أو الشعر، ويحدد أن الاعتراف يأتي على شكلين: الأول سافر مباشر، يقدم خلاله الأديب اعترافاً يكشف عن منعطفات وخفايا حياته الشخصية الحقيقية باسمه الصريح،

والشكل الثاني، وهو الأكثر شيوعاً، ليس بين الأدباء العرب، بل بين عموم النتاج الأدبي العالمي، وهو أن يضمّن الأديب أو يدسّ في كتاباته أجزاء من تجربة حياته وسيرته الخاصة دون الإفصاح عن ذلك.

الحقيقة باهظة

الرفاعي يؤكد أيضا ان مواجهة النفس بمكامن دهاليز حاجاتها وضعفها وخستها وجراءتها وتهورها وكذبها وصدقها وخياناتها ووقاحتها وأوجاعها من جهة، ومواجهة الآخر المشترك في هذه التجربة من جهة ثانية، والوقوف بوجه المجتمع، وتحديداً المجتمعات المحافظة من جهة ثالثة، كل هذا مجتمع يحتاج إلى جراءة كبيرة قد تصل حد الجنون، وهو إلى جانب ذلك يحتاج إلى تحد بقبول كل ما يترتب على اعتراف يعرّي الآخر، أياً كان هذا الآخر، ويفضح ممارساته! وكم هو باهظ ثمن قول الحقيقة!

ويشير الرفاعي إلى عدد من المحاولات لأدباء عرب كثر كتبوا عن سيرهم الشخصية، بدءاً بطه حسين، مروراً بغسان كنفاني وصنع الله إبراهيم ونبيل سليمان، وعالية ممدوح، وتركي الحمد، والأديبة ليلى العثمان في رواية «المحاكمة»، ويقول الرفاعي ان كل هؤلاء وغيرهم خاضوا في وجع تجاربهم الخاصة، وخلّدوا تلك التجارب، ودفع كلٌ منهم ثمنا يخصه!

وأخيرا يؤكد الرفاعي أن كل كاتب حرٌ بكتابة سيرة حياته، ولكنها سيرة متداخلة مع سيرة الآخر، فمن يعطيه الحق بالتعرض إلى أسرار حياة الآخر، الأم والأب والأخ والزوجة والعشيقة والصديق والزميل؟ كما أن المجتمعات البشرية تربت على طمر نتاج خبثها ودناءاتها، وويل لمن يتجرأ على كشف هذا الخبث وتلك الدناءات حتى لو كان صادقاً!

الكاتب العربي يتجمل

من جهتها، تؤكد الأديبة ليلى العثمان أن فن الاعتراف موجود في الثقافة الغربية بكثرة ولا ينفصل عن السيرة الذاتية، وترى العثمان أن الأديب أو الكاتب الغربي لديه مساحة من الحرية تمكنه من الاعتراف حتى بأكثر الأشياء قسوة على النفس، كما أن المجتمعات الغربية تتمتع بمساحة مقابلة من تقبل الرأي مهما كان، بل ينظر إلى الكاتب الذي يعترف بصدق على أنه يتمتع بالشجاعة ولا يصطدم مع المجتمع الذي يحترم شجاعة الكاتب في الاعتراف.

بينما تشير العثمان إلى صعوبة الوضع في عالمنا العربي، حيث من الصعب أن تجد كاتبا يكتب سيرته الذاتية ويعترف بصدق كامل، بل ترى أن هناك بعض الكتاب الذين يستخدمون التجميل عند الكتابة التي تخص سيرتهم وحياتهم الشخصية.

وتؤكد العثمان أن المجتمع العربي لا يتقبل شجاعة الكاتب، ويعتبر ما يكتبه من اعترافات بمنزلة الفضائح، ناهيك عن العامل الديني لكنها تؤكد أن المسألة نفسية أكثر منها دينية، والأهم أن اعترافات الكاتب العربي يمكن أن تسبب له الكثير من المتاعب كما حدث معها، عندما كتبت عن علاقتي بوالدي رفع علي أحد أشقائي دعوة قضائية بحجة الإساءة إلى الوالد، لهذه الأسباب لا يوجد لدينا أدب اعتراف.

المسطرة الغربية

الأديب والأكاديمي د. سليمان الشطي يشير إلى أن الاعتراف شيء معترف به في الثقافة المسيحية الغربية، ولذا ظهرت اعترافات القديس أوغسطس ثم جاء روسو واراد أن يعري نفسه باعترافاته، في العالم الغربي مثل هذه التعرية لها محاذير، ويتحفظ الشطي على مقولة ان أدب الاعتراف غائب تماما في الثقافة العربية، بل يؤكد أن هناك محاولات شخصية عديدة في هذا الإطار.

الإمام الغزالي في «المنقذ من الضلال» هي اعترافات لفيلسوف استبدت به الحيرة، وطه حسين في الأيام هي نوع من الأعترفات، وفي ثلاثية نجيب محفوظ سنجد الكثير من التجارب التي مر بها دون الإشارة إلى ذاته، حتي في العصر الحديث نجد الكثير من نماذج الاعتراف داخل الرواية كما في الخبر الحافي لمحمد شكري وسهيل إدريس في «أصابعنا التي تحترق».

الخلاصة في رأي الشطي أن أدب الاعتراف رغم أنه سباق في الغرب فان هناك محاولات موجودة له في العالم العربي، قد لا تكون من نوعية الاعتراف الصريح الطاغي لدى الغربيين، لأن في النهاية اعتراف الكاتب العربي عن نفسه لا يخصه وحده وإنما يشمل الآخرين أيضا، لكن هناك محاولات عربية قد تكون قليلة ولكنها موجودة وإن كانت ليست وفق المسطرة الغربية.

المصدر

مجلة البابطين الثقافية الالكترونية