يرى مؤلف كتاب “المدخل إلى دراسة النحو العربي” أن من المؤسف “أن يتغافل النحاة العرب القدماء عن اللغات السامية”، فلماذا وقع هذا التجاهل من النحاة العرب لهذه المجموعات اللغوية القريبة؟ يقول المؤلف “عبدالمجيد عابدين” المدرس بكلية غوردون بالخرطوم إن ثمة انحيازاً عرقياً لهذا التجاهل، ويرجع عابدين “سبب التغافل إلى أن مؤسس النحو هو “سيبويه” وهو من أصل فارسي، واللغة الفارسية من فصيلة اللغات الهندية- الأوروبية، وهي تختلف كليا عن اللغات السامية، كما أن التعصب الديني كان له أثره، إذ إن اللغات السامية كانت لغات لأقوام نصارى أو وثنيين”. (ص213)

ولم يكتف “عابدين” بنقد “سيبويه” والنحاة في تغافلهم عن اللغات السامية، بل يظهر أخطاء الدراسة النحوية القديمة كإخضاع اللغة للمنطق، وقطع الصلة بين اللغة ونفسية صاحبها إلى جانب أن النحويين في العراق مثلا كانوا شيعاً وأحزاباً، وكان للعصبيات أثر في التفريق بين العلماء وآرائهم، ويضيف منتقداً النحاة: “ومن أخطاء الدراسة النحوية القديمة عناية القدماء بأحوال أواخر الكلمات إعراباً وبناء، وكأن النحو هو العلم بأحوال أواخر الكلمات”.

وأخذ المؤلف على قدماء النحاة “حصرهم الاستشهاد بالجاهليين والمخضرمين واختلافهم في المتقدمين من صدر الإسلام ورفضهم الاستشهاد بالمولدين مما أفقر اللغة وحرمها الكثير من الألفاظ والتعابير، كما اختلفوا بالاستشهاد بقراءات القرآن وبالحديث النبوي”. ويضيف عابدين أن “من عيوب الدراسات النحوية القديمة طغيان النظر الفقهي على الدراسة النحوية”.

(في المعجم الوسيط: المولّد: المحدث من كل شيء، ومنه المولدون من الشعراء، والمولّدون من الرجال: العربي غير المحض. والمولّد من ولد عند العرب ونشأ مع أولادهم وتأدب بآدابهم، والمولّد من الكلام: كل لفظ كان عربي الأصل ثم تغير في الاستعمال. ويقال كتاب مولّد: مفتعل).

ورغم أن “عابدين” مؤلف الكتاب، من دعاة كتابة العربية بأحرف لاتينية كما التركية اليوم مثلاً، إلا أن ملاحظاته وانتقاداته جديرة بالدراسة إن أردنا للغة العربية مجاراة العصر وشدة الانتشار، وفي مقدمة المطلوب تحديث قواعد النحو والإملاء والبلاغة! ومن القضايا اللغوية التي قد تثار الفرق بين اللغة واللهجة، فما تعريف كل منهما إذا أجمع المؤرخون واللغويون وغيرهم على أن القرآن الكريم قد “نزل بلهجة قريش”؟ غير أن في كلام عابدين شيئا من التناقض في مسألة علاقة القرآن باللغة العربية و”لهجة قريش”. فالمفروغ منه مبدئياً ولغوياً أن “اللهجة” أقل مكنة وكمالاً من “اللغة”، فهل كان حديث وتفاهم أهل قريش بلهجة قبلية أم بلغة عربية راسخة القواعد والمعاني؟

يقول عابدين: “تعد اللغة العربية هي الأكمل والأقرب إلى الأصل”، ويرى أن اللغات السامية متقاربة في الألفاظ والتراكيب مما يدل على نشوئها من أصل واحد، والعربية أقرب اللغات السامية إلى هذا الأصل، ويضيف: “وظهرت اللغة العربية على مسرح التاريخ وهي لغة ناضجة، وقد أصبحت لغة قريش هي اللغة الأدبية التي اتخذها العرب والخاصة كافة ونزل بها القرآن الكريم، وبقيت لهجات القبائل الى جانب لهجة قريش”، ويرى المؤلف “أن على الباحث عند دراسة لغة قريش، وهي اللغة الفصحى، أن ينظر إلى مقارنتها باللهجات القبلية الأخرى وباللغات السامية”، ويضيف: “إن الباحثين القدماء لم ينظروا الى تأثر لهجة قريش باللهجات القبلية الأخرى، ولم يدرسوا اللهجات القبلية المختلفة لبيان خصائص كل لهجة”، ولكن كيف يعقل أن تكون اللغة العربية قد “ظهرت على مسرح التاريخ وهي لغة ناضجة”؟

يقول “المعجم الوسيط” في تعريف اللغة “أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم”، ويقال: “سمعتُ لغاتهم: اختلاف كلامهم”.

وتعريف اللهجة: “اللسانُ، أو طرفه، ولغة الإنسان التي جُبل عليها فاعتادها”. يقال: فلان فصيح اللهجة، وصادق اللهجة، واللهجة: طريقة من طرق الأداء في اللغة، واللهجة: جرس الكلام”. ويقول “المنجد” في تعريف “اللهجة” أنها “اللسان أو طرفه، ولغة الإنسان التي جُبل عليها واعتادها”.

ونتساءل من جديد: ما اللغة وما اللهجة؟ وما الفرق بينهما؟ ولماذا تعد اللغة الفصحى لغة وكلام الناس اليومي في الدول العربية لهجات، بينما كان نزول القرآن الكريم “بلهجة” قريش؟

بدأنا المقال بالحديث عن شاعر من القدماء، “زهير بن أبي سلمى”، وننهيه كذلك بالحديث عن شاعرين معاصرين! ففي مجموعة “نوادر النوادر من الكتب” عرض لكتاب بعنون “شاعران معاصران: إبراهيم طوقان وأبو القاسم الشابي”، وهو من تأليف د. عمر فروخ الذي وضع أكثر من 70 كتاباً، واشتهر بكتابه “العلوم عند العرب” وللأول، أي إبراهيم طوقان قصائد في الغزل والوطنية والرثاء وموضوعات أخرى، وهو صاحب قصيدة “موطني” التي اختيرت تقريباً كنشيد وطني للعراق بعد إسقاط النظام سنة 2003، أما الشاعر الثاني، أبو القاسم الشابي فقد اشتهر ببيتين من الشعر شديدي الرواج والتأثير وهما “إذا الشعب يوما أراد الحياة… إلخ”.

وقد ولد طوقان عام 1905 وتوفي عام 1941 عن عمر قصير وتقول موسوعة “الأعلام” للزركلي عنه إنه كان من أهل نابلس بفلسطين، وقال فيه أحد كتابها إنه “عذب النغمات، ساحر الرنات، تقسم بين هوى دفين، ووطن حزين”، وتضيف “الأعلام” أن إبراهيم تعلم في الجامعة الأميركية ببيروت، وبرع في الأدبين العربي والإنكليزي، وانتقل إلى بغداد مدرساً، وكان يعاني مرضا في العظام، فأنهكه السفر فتوفي شاباً، وكان وديعاً مرحاً، ولأخته الشاعرة “فدوى طوقان” كتاب في سيرته سمته “أخي إبراهيم”، ويذكر عنه في عهد دراسته ببيروت “أنه أراد الزواج بفتاة استلهمها فواتح شعره، فتزوجت بقريب لها”. (الأعلام، خير الدين الزركلي، 1954).

ويقول المرجع نفسه، “الأعلام” عن أبي القاسم الشابي إنه شاعر تونس، في شعره نفحات أندلسية، ولد في قرية “الشبابية” في الجنوب عام 1906 ومات شابا عام 1934 بمرض الصدر ودفن بقريته، تقول المراجع إن أباه كان شاعراً أيضا توفي قبل ابنه بخمس سنوات.

ويبدأ د. فروخ القسم الأول من كتابه عن الشاعرين بإبراهيم طوقان وذلك “بترجمة للشاعر يتناول فيها المؤلف عائلته وأسلافه، ومولد الشاعر في نابلس 1905 ونشأته الأولى والأمراض التي انتابته، والدراسة التي تلقاها في بلدته، ثم في القدس ثم في الجامعة الأميركية ببيروت، ثم عمله مدرساً في مدرسة النجاح في نابلس، ثم أستاذاً في الجامعة الأميركية ببيروت، ثم في المدرسة الرشيدية في القدس، ثم يتحدث المؤلف عن علاقات إبراهيم الغرامية، ثم زواجه من فتاة فلسطينية ثم عمله في الإذاعة الفلسطينية، ثم انتقاله الى بغداد للعمل في التدريس، وأخيراً يتحدث عن وفاته وتشييعه ورثائه”.

(نوادر النوادر ص267)

و”يعرض المؤلف لخصائص شعر الشابي، ويذكر أن الشابي شاعر وجداني خالص، وهو على صغر سنه شاعر مكثر مجيد، وفي شعره نزعة من التحرر من العرف السائد في بيئته، وتتصف قصائده بوحدة الموضوع، وبالميل الى النقمة على مجتمعه، والتشاؤم وهو متأثر بأدب المهجر، وأورثه هذا التأثر كثرة التكرار للألفاظ والتراكيب والمعاني، وهو مغرق في استعارته مما يؤدي به الى الغموض”.

ويضيف د. فروخ أن “قصائد الشابي في السياسة والقومية هي التي أكسبت الشابي شهرته، وهي مزيج من الأسلوب القديم والحديث، وفي موضوع التأمل في الحياة، يرى المؤلف أن نظرة الشابي إلى الحياة كانت تشاؤما محضاً”. (ص269)

والى لقاء قادم مع المجلد 21 من مجموعة “نوادر النوادر من الكتب”.

مجلة البابطين الثقافية الالكترونية