تمرّ الذكرى الثانية لرحيل الأديب إسماعيل الفهد، الذي توفي في 25 سبتمبر 2018، وهو الملقّب برائد ومؤسس فن الرواية.

اتسمت تجربة الأديب الراحل بالثراء والتنوّع، لاسيما أنه أقام بأكثر من دولة، في الكويت والعراق والفلبين، وكان يردد أنه «كائن كوني، متجاوز لحدود الجغرافيا، والوثائق الرسمية والتصنيفات»، وتمكّن الفهد من غرس جذور رواياته في مصر ولبنان وفلسطين والعراق والكويت.

ويعد الراحل رائداً ومؤسساً لفن الرواية في الكويت، وحاز عدة جوائز ثقافية مرموقة، منها جائزتا الدولة التشجيعية والتقديرية، وجائزة سلطان العويس، وجائزة الشيخ زايد، إضافة إلى تأهّله للقوائم القصيرة والطويلة لجائزة البوكر للرواية العربية.

موجّه فني

 

وُلد الراحل في العراق عام 1940 وحصل على بكالوريوس المعهد العالي للفنون المسرحية في عام 1979، وعمل مدرسا بمدرسة المتنبي المتوسطة، ورئيسا لقسم الوسائل السمعية في إدارة التقنيات التربوية، وموجها فنيا في إدارة النشاط المدرسي بوزارة التربية.

وبمناسبة مرور السنة الثانية، استذكره عدد من الأدباء العرب، وضمن هذا السياق قال الكاتب طارق هاشم: صديقي… ما زلت أتصفح، بشكل عشوائي، روايتك التي أهديتني إياها «يحدث بالأمس»، لا بتسلسل الصفحات التي نظمتها أنت بعناية فائقة».

وأضاف: «لأنني أشعر بالارتباك في هذا العالم الموحش الذي تركتني فيه ورحلت، آه .. لو تعلم كم كانت مهمة عسيرة كتابة رسالتي الأولى هذه لك، هل أرسلتها إليك إلى هناك حيث اللاعنوان واللامكان، هل ستعكّر عليك روحك الراقدة بسلام، أو ربّما أنت هناك تراقب حماقاتنا وتدونها بحكمة العارف بكل شيء، ربّما ستدون وتصف تصورات عقلنا المتشائم ضد إرادة التفاؤل في هذا الزمن المتلبس».

وحول فيروس كورونا، قال:» زمن جائحة فتكت بأحلامنا وأوهامنا، ولم تكن في الحسبان، ربما نحن من يستحق الرثاء في زمن المحنة والاغتراب وعجائب لم نشهدها من قبل أيها الحكيم العارف، ما زالت الغربة تلاحقني حيث حللت، فلا نسيب ولا رفيق ولا صديق يرثيني على حالي».

ويوجه هاشم رسالة إلى الراحل: «صديقي الغائب الحاضر إسماعيل… أحتاجك أكثر، (فأنا الغريب في الجملة من كلّه حُرقة، وبعضه فُرقة، وليلُه أَسَف، ونهارُهُ لهف، وغَدَاؤه حَزَن، وعشاؤه شَجَن، وآراؤه ظنَن، وجميعه فِتن، ومفرقه مِحَن، وسِرّه عَلن، وخوفه وطن).

بدورها، قالت الكاتبة والمترجمة دنى غالي: لا يمكن ألّا يكون مكانه الفارغ أليما، في الحوارات التي أتخيلها تجري بيننا حيال الحياة، الوجود، في قراءاتي، كتاباتي، في الانتصارات التي أشعر به يبتسم لي زهوا بتحققها. العاطفة التي تجمعنا هي الأشد قدحا لتجذّرنا في الحياة، لتحققنا ومواصلتنا. نحن ممسوسون بها، هي من الرّفعة والرقيّ ما يجعل نسيانه أمرا مرفوضا، حتى ذات الحماسة والانفعال اللذان لا يمكن للعقل ولا الإرادة أن يدخلا ميدانا من دونهما.

وتابعت: «متشعبة الطرق التي مشيناها تتردد فيها أصداء شتى، صدى احتضانه للوالد حال مغادرته العراق قسرا، مُلاحقا من قبل سلطة البعث في عام 79، الكتب المهداة إليّ بتوقيعه في أول الدرب والقراءات. الكائن العزيز وسط العائلة، صدى «النقطة الأبعد» التي حطّت بين يديه، أول رواية لي، منوّها بخطّ يده بقلم الرصاص إلى «كتابة مغايرة»، صدى احتفائنا باسمه وهو يكرّم بحبّ الناس المرة تلو المرة.

وخلصت إلى القول: «في كل مرة أفشل وأعجز ويفوقني الصمت في التعبير عن افتقادي، ولكن محاولة التعبير عن هذه العاطفة ذاتها هي التي تقف خلف مواصلتي المحاولة مرة بعد أخرى».

صروح محبة دائمة

 

فيصل خاجة

كان أديبنا النوعي متدفق العطاء، مخلصاً لقضيته الأسمى «الإنسان»، فكان نضاله الذي تجاوز ثلاثة ملايين كلمة مطبوعة احتوت عليها أعماله، عبر أكثر من نصف قرن، والتي تنوعت ما بين القصة، والرواية، والمسرحيات، والدراسات، والشعر، والأعمال التلفزيونية وغيرها. وكانت الرواية ميدانه المفضل، مستحوذة على ثلثي إنتاجه الفكري، هذا الميدان الذي صال وجال فيه بأساليب وأدوات تخيل لك أنك تقرأ لكتاب مختلفين؛ من فرط تباينها، مخاطبا مختلف القراء بتباين خبراتهم وأذواقهم مبديا الاحترام لهم، وهو الذي كتب: «عندما يضع الكاتب نصب وعيه أنه يخاطب قارئا نبيلاً نبيهاً في الوقت ذاته، يلزمه احترام ذكاء شريكه». هذه الأعمال كتبت لتبقى على الدوام «خطوة في الحلم».

أما على الصعيد الشخصي، فقد ترك غيابه فراغا في نفسي لا يعوض، فقد كان المعلم والصديق والحكيم الذي ألجأ إليه بفلسفته المتسامحة مع كل الأشياء والمحبة للإنسان والحياة، لم يغب عنه أن يوصينا حتى بكيفية التعامل مع الحزن قائلا: «ورد في سفر الأحوال أن الحزن سمة الكائن البشري، ومن أحسن تداوله عرف كيف يقيم صرح محبة»، وها نحن نقيم من حزننا على غيابك صروح محبة دائمة.

غاب ولم يغب

 

ليلى العثمان

كيف تركض الأيام والأسابيع لتكتمل السنة الثانية، سنتان مسحتا الكثير من الأحداث، لكنهما لم تستطيعا أن تمسحا حضوره الدائم في القلب والذاكرة، فهو الغائب الحاضر، البعيد القريب.

بالأمس كان يجلجل بضحكته (له ضحكته الخاصة). بالأمس كان يجلس بيننا يحتويتا بالمحبة والرعاية يجاذبنا الحديث فَرِحاً أو حزيناً، يتابع إنتاج الشباب، قراءة مرهقة، رغم وقته الثمين. يناقشهم بأعمالهم، يُسدي لهم النصيحة بلا شدّة، بل بحنان أتضايق منه أحياناً، أقول له لا تُفسد الشباب بدَلَعِكَ لهم، القسوة ضرورية لمن يبدأ أول سطوره. يضحك ويقول: «لا أحبّذُ كسرَ طموحهم، ومع الوقت سيتعلمون».

إسماعيل صديق العمر الذي لازمته طوال السنوات. لا أذكر أننا تخاصمنا يوماً ولا تباعدنا، كنّا رفقاء حياة ورفقاء سفر، كنّا أنا وهو والصديق طالب الرفاعي نشكّل ثلاثياً نادراً، وكان بعض الناس يحسدوننا على علاقتنا المتينة، وكم حاولوا إفساد تلك العلاقة، لكنّها – العلاقة – وقفتْ تجابه الحسد والضغينة بالإهمال والتّرفّع والاستمرار.

أذكر ليلة اتصل بي متأخراً بعد أن قرأ روايتي «حكاية صفية»، كان سعيداً بها، وقال لي مازلتِ متطوّرة في كتابتك وستبقين. ووعدته بذلك. والآن وأنا أكتب روايتي الجديدة يُطلّ عليّ من بين السطور يراقبني ويطلب منّي «احذفي هذه الجملة»، «راجعي هذا الفصل»، «هنا كتبت شيئا جميلاً»، «وهنا غلبكِ الحزن»، «هنا أضيفي بعض الحوار بين حمد وأعمامه». هكذا يشاغبني كما كان يفعل دائماً وأحب مشاغباته التي تُشعرني بحضوره معي.

كان بيننا حبٌ مستقرٌ من نوع خاص، لا تُعكّره الفصول بكلّ تنوّعها، الصيف مع شدّة حرارته يزيدنا دفئاً، والشتاء بمطره يغسلنا من الشوائب، والربيع ينثر علينا وروده الملوّنة، والخريف يُنذرنا بأن للعمر نهاية، ونستمرّ رغم تساقط أوراقنا يوماً بعد يوم.

غاب ولم يغب. ظلّ وجهه الجميل وعيناه الزرقاوان مثل سماء صافية، رحل ولم يرحل، ظلّت أشياؤه وكتبه بيننا نعود إليها كلّما مَسّ الحنين مشاعرنا. مات ولم يمت، فالقلب ما يزال ينبض بحبه حتى نلتقيه في عالمه، سنتان مرّتا يا إسماعيل وما نزال على ذكراك الطيبة اليانعة في قلوبنا.

بتوقيت الشمعة الثانية: إسماعيل فهد إسماعيل

 

مقداد مسعود

في المرحلة الروائية الأولى تناول إسماعيل فهد إسماعيل فرداً من المجتمع، وشكله روائياً ضمن حقبة الستينيات العراقية المحتدمة سياسياً في البصرة، والجديد هنا هو الاقتصاد الأسلوبي في تناول الشخصية مع شعرنة الوحدات السردية، والتوظيف الحيوي لمنجز تيار الوعي، كل ذلك قام بتكثيف نصوصه فتدفقت روايات إسماعيل: قصيرة وعميقة، وهي: «كانت السماء زرقاء» و«المستنقعات الضوئية» و«الحبل»، وجاء الجزء الرابع «الضفاف الأخرى»، وهنا تفرد إسماعيل على مستوى صدمة التلقي، فالقارئ سيباغت بين الحجم الصغير للرواية والصفحات القليلة وغياب التفاصيل المترهلة التي تآلف القارئ معها، والأجمل هو ذلك الغموض السردي الشفيف.

بعد الرباعية التي تدور في البصرة، يباغتنا إسماعيل بعدة تنويعات من السرود وصولاً إلى ثلاثية تدور في مصر، وهنا يغترف إسماعيل من ذاكرة المؤرخ الجبرتي، ويقوم بتدوير السرد مغترفاً من النيل الذي يجري شمالاً: البدايات/ النواطير/ الطعم والرائحة، وفي التسعينيات صدرت لإسماعيل سباعيته الروائية إحداثيات زمن العزلة.

مهارة إسماعيل السردية هي نقلاته الأسلوبية المتجددة، وعياً منه بضرورة التجاوز على مستويي: المعمار الفني، والموضوع.

نزهتي في عوالم إسماعيل الثرية غدت سنوية، ومن منصة هذه النزهات انطلقت مخطوطة كتابي «فصوص الخاتم»، وفي زيارته الأخيرة للبصرة سلّمت إليه نسخة من المخطوطة التي تناولت فيها: الجهوية الجديدة في سرديات إسماعيل التي تتجاوز نفسها دائماً:

* رأسك في طريق واسمك في طريق أخرى

* في حضرة العنقاء والخل الوفي

* طيور التاجي

* الظهور الثاني لابن لعبون

* السبيليات «ما لم يرد ذكره في سيرة أم قاسم»

* على عهدة حنظلة

* صندوق أسود آخر

في الغالب علاقتي تتحدد بالنصوص، إلا مع الأخ والصديق الشفيف المبدع الكبير إسماعيل فهد إسماعيل، فعلاقتي تماهت مع شخص إسماعيل ونصوصه، فكنت كأني أقرأها بأذنيّ إذ كانت قراءتي تستضيء بصوته… طيّب الله ثراك يا أبا أسامة… تبقى سيرتك العطرة وأعمالك نجوم هداية لقوافل الأجيال الأدبية.

التواضع والشغف والمحبة

 

سليمان البسام

في هذا الموسم؛ موسم ذكرى رحيلك المفجع، يحطّ الهدهد على أرض الكويت ليرتوي بالقليل من الماء قبل أن يستأنف رحلته تجاه الهند…

 

المصدر جريدة الجريدة

مجلة البابطين الثقافية الالكترونية