هناك أشخاص يرحلون ولكنهم لا يغيبون، بل يظلون أحياء في وجداننا أبد الدهر بأعمالهم وأخلاقهم وبسيرتهم الطيبة التي سطّروها خلال حياتهم. رحم الله الأخ العزيز عبدالرحمن العتيقي، أبا أنور.. الرجل النبيل الذي آمن بالمبادئ الإنسانية السامية، وأنفق في سبيلها عمره، فعاش طيلة حياته في خدمة بلده وأمته بكل اخلاص وشرف وصدق وأمانة. فقد عرفُتهُ منذ ما يزيد على خمسين عاماً، إذ ربطَتْ بيننا الجيرة، وجمعنا المسجد حيث كنا نلتقيه مع رواد بيت الله تعالى، هو وأولاده وأحفاده وأسباطه الذين كان يحرص على اصطحابهم معه إلى الصلاة عند كل أذان. ومع مضي السنين توطدت علاقتنا أكثر فأكثر، فكان – رحمه الله – يختصنا بزيارة في ديواننا كل يوم جمعة بعد صلاة المغرب مباشرة حتى أذان العشاء، ننفرد بها معاً بوجود الأخ عبدالكريم البابطين وأولادنا، نتجاذب أطراف الحديث في كل ما ينفع ويفيد على المستوى العام والمستوى الخاص، وكان – رحمه الله – حريصاً جداً على النصح والمشورة لأبنائي، حيث كان يعتبرهم بمنزلة ولديه أنور وأكرم. فلقد رأيناه عفَّ اللسان، وحسن المعشر، وطيب النِّيَّات، مخلصاً لدينه ووطنه، ذا خبرة عريضة وتجربة واسعة في جميع مناحي الحياة، لا يبخل بالنصيحة ولا يضن بالمشورة على أحد. ولذلك كان – رحمه الله – محل تقدير واحترام لدى الكويتيين وفي صدارتهم حكامنا الكرام من آل الصباح، الذين ارتبط بهم منذ نشأته الأولى وهو بعمر تسع سنوات، كما روى لي المرحوم أبو أنور نفسه عندما أرسله والده – يرحمه الله – من منزلهم برسالة إلى المغفور له الشيخ أحمد الجابر في قصر بيان بموقعه الحالي، ولم يكن القصر وقتها يزيد على بضع حجرات بسيطة مبنية من الطين والجندل، وكانت هذه خطوته الأولى مع الديوان الأميري، ولما كبر تنقل بين المواقع التي خدم من خلالها الكويت في دائرة التموين، ثم في مناطق التنقيب بشركة النفط، ثم اختاره الشيخ صباح السالم الصباح – طيب الله ثراه – سكرتيراً له عندما أسس دائرة الشرطة في أواخر أربعينات القرن الماضي، ثم تولى منصب مدير الشرطة بعد ذلك بسبع سنوات، وهو في الثامنة والعشرين من عمره، لمدة ثلاث سنوات، تولى بعدها دائرة الصحة. ولم يقف اعتماد حكام الكويت على الأخ عبدالرحمن العتيقي عند حدود المهمات الداخلية فحسب، وانما اعتمدوا عليه كذلك في تمثيل الكويت في أرفع المحافل الخارجية، فكان أول سفير للكويت في الولايات المتحدة الأميركية، كما كان مندوب الكويت الدائم لدى الأمم المتحدة. وقد أثبت – رحمه الله – جدارته في المواقع التي شغلها كافة، وكشف عن كفاءة نادرة المثال في كل ما أُسنِدَ إليه من مهام، فعُهِدَ إليه بالمناصب الوزارية الرفيعة والحساسة، وتولى منصب وزير المالية والنفط في عهد المغفور له الشيخ صباح السالم الصباح، ثم تولى بعد ذلك منصب وزير المالية، واستمر في هذا المنصب في عهد المغفور له الشيخ جابر الأحمد الصباح الذي سمَّاه مستشاراً له، وامتدت تلك العلاقة المتينة مع صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد الصباح – أطال الله عمره – ومع باقي رموز أسرة الصباح الكرام. وكان – رحمه الله – محل تقدير الجميع واحترامهم من رموز دولتنا، وكذلك من أبرز السياسيين والحكام في الوطن العربي والعالم، وهو ما لمسناه عند سفرنا معاً مراراً إلى كثير من البلدان، خصوصاً المملكة العربية السعودية الشقيقة، وظهر لنا بوضوح في لقاءاتنا مع كبار الأمراء ورجال الدولة، وفي مقدمتهم أصحاب السمو الملكي: الأمير سلطان بن عبدالعزيز، والأمير نايف بن عبدالعزيز – رحمهما الله – والأمير أحمد بن عبدالعزيز – أمدَّ الله في عمره – إذ كان مُقدَّراً لديهم جميعاً، كما أتذكر أن التقيتُهُ في لندن بدعوة من الأمير تشارلز (ولي عهد بريطانيا) بمناسبة افتتاح مركز إسلامي هناك، وكان من بين المدعوين الدكتور علي الشملان، وكذلك شخصيات عالمية رفيعة أخرى، وكان المغفور له عبدالرحمن العتيقي محل تقدير واهتمام لتلك النخبة الحاضرة. ولا يمكننا أن ننسى كثيراً من مواقفه النبيلة، خصوصاً حينما رافق الشيخ جابر الأحمد الصباح – طيَّب الله ثراه – ولازمه في أحلك الظروف التي عاشها الشعب الكويتي خلال فترة الغزو العراقي الغاشم، فكان نعم الرفيق ونعم المستشار. وفي تلك الأيام كان – رحمه الله تعالى – يزورنا في الديوانية بمسكننا المؤقت في جدة، ليطمئن علينا، وكان يحرص على أن يبث الطمأنينة في نفوسنا ونفوس سائر رواد الديوان، مؤكداً قرب عودتنا إلى وطننا الغالي، فكان مصدر ثقة الجميع لرجاحة عقله وخبرته الطويلة وصفاء نيته. ولا يمكننا أن ننسى أيضاً كثيراً من انجازاته واسهاماته في الاقتصاد الكويتي من خلال دوره البارز في تأسيس بيت التمويل الكويتي، ونستشهد هنا بما قاله المرحوم أحمد بزيع الياسين في ديواننا – وكان من بين الحضور المرحوم عبدالرحمن العتيقي، وبدر المخيزيم، وأخي عبدالكريم – أن هذا الرجل – وهو يشير بإصبعه إلى المرحوم العتيقي – كان له الفضل في تأسيسه إبان توليه وزارة المالية، أو تمثيله الكويت في تأسيس منظمة أوبك، أو عمله المعتبر في المجال المصرفي، إضافة إلى ما قدمه من أياد بيضاء في كثير من الأنشطة الخيرية داخل الكويت وخارجها. رحمك الله يا أبا أنور، وأسكنك فسيح جناته، فلقد كنت الناقل الأمين والوجه الناصع البياض لبلدك وأهل الكويت وقيادتها الرشيدة، وسيضعك التاريخ رمزاً متميزاً من رموز هذا الوطن الذي قدَّمْتَ له خلاصة فكرك وجهدك. عبدالعزيز سعود البابطين

الناشر (القبس) : https://alqabas.com/article/5784363

مجلة البابطين الثقافية الالكترونية