خليج الجوائز والهبات – محمد العباس

جائزة عربية أخرى للإبداع يُعلن عنها من الدوحة هذه المرة، وتحديداً من المؤسسة العامة للحي الثقافي (كتارا). وهي جائزة مخصصة للرواية أيضاً وتصل قيمتها إلى 200 ألف دولار أميركي، إضافة إلى ترجمة الرواية الفائزة وتحويلها إلى عمل سينمائي. وتأتي هذه المبادرة ضمن الاستراتيجية الخمسية للمؤسسة، التي تهدف إلى إثراء المشهد الثقافي ودعم الفنون، ومكافأة الروائيين العرب وتشجيع الأدب، وترسيخ فكرة الوحدة العربية من خلال الرواية.

ولا شك في أن هذه الجائزة التي ستنطلق دورتها الأولى في آذار (مارس) من العام الحالي تشكل إضافة مهمة للمشهد الثقافي العربي. وتفتح للناشرين والروائيين مساحة للتنافس والإبداع، إلا أن السؤال الذي يُطرح بقوة عن جدوى ومغزى جائزة إضافية للرواية في ظل وجود جائزة أخرى هي الجائزة العالمية للرواية العالمية التي تعهدت بها مؤسسة الإمارات منذ عام ٢٠٠٧ بالتعاون مع جائزة بوكر البريطانية ومعهد وإيدنفيلد للحوار الاستراتيجي ويُمنح الفائز فيها 50 ألف دولار.

يكتسب هذا السؤال مشروعيته ليس من وجود جائزة عربية موازية فقط، ولكن من تِكرار العناوين البراقة ذاتها حول رعاية الأدب والأدباء وتشجيع الفنون. كما يتبادر السؤال بموجب قيمة الجائزة التي تتجاوز الأولى بأربعة أضعاف. وهو حلم قطري تم الإعلان عنه منذ مدة والتراجع عنه بسرعة في ظروف ثقافية ما زالت غامضة. ربما لأن الإعلان الأول كان ارتجالياً بعض الشيء وغير منطقي، إذ كان التلويح بمسابقة عالمية وجائزة مليونية. وهو أمر يصعب الإلمام به على مستوى المتابعة والتحكيم والترجمة.

وعلى جنبات هذا السؤال تُنزرع حزمة من الأسئلة عن سر اهتمام المؤسسات الخليجية بفكرة الجوائز الثمينة الآخذة في التزايد، في ظل حال من التهميش للمثقف الخليجي وتعطيل أي إمكان للارتقاء بالفنون والآداب في مجتمعات يُراد لها أن تغرق في رفاهية اللحظة النفطية، فهناك جائزة سلطان العويس الثقافية، وجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب، وجائزة الملك فيصل العالمية، وجائزة عبدالعزيز سعود البابطين، وجائزة الشيخ زايد للكتاب. وهي جوائز تُمنح تحت مظلة رسمية أو بواسطة مؤسسات لرجال أعمال، وهنا يكمن سر مبالغها الخيالية مقارنة بجائزة نجيب محفوظ للرواية التي لا تتجاوز ألف دولار.

إن وجود الجوائز في حياة أية أمة من الأمم دليل على التحضر، وإشارة ذات دلالة على الاهتمام بالإنسان وتاريخه الفكري والوجداني، لأنها تدل على التنظيم المدني وفاعلية المؤسسات الثقافية، وبالتالي لا بد أن يتناسب حضورها على مستوى الكم والقيمة مع منسوب الإبداع في كل الحقول، وهذا يعني أن تنطلق الجائزة من اعتبارات رمزية ومادية في آن، بحيث لا تتجاوز الإقليم في تطلعاتها بذرائع شعاراتية. وعندما تُستنبت الجائزة إلى جانب الجائزة وتتبأر كلها في الخليج العربي، يبدو الأمر وكأنه خارج مسارات ومقاصد الفعل الثقافي.

كل المؤسسات الثقافية في الخليج العربي مهجوسة بفكرة الخروج من الهامش، وتغيير معادلة المركز والأطراف. من واقع توظيفها لمفهوم الثقافة بطبيعة الحال، أي تدشين المباني وملحقاتها المادية والاحتفالية والمهرجانية وتهشيم المعاني، إلى درجة أن بعض المنابر صدقت هذه المقولات الواهية وروجت لها. فالمركز الثقافي لا ينهض على منح جائزة أو تنظيم مهرجان أو إنشاء مبنى، بل بصناعاته الثقافية المتمثلة في توليد النظرية وترجمة المعارف الإنسانية وتأليف الكتب الفكرية والأدبية وإنتاج الأفلام وبناء المسارح ودور السينما والصالات الموسيقية. وهذا ما لا يتوفر في البلدان الخليجية مقارنة بالعراق وسوريا ومصر والمغرب.

الثقافة استثمار في الإنسان وليس في المباني، وهذا ما لا تتبناه المؤسسات الثقافية في الخليج، بل تعمل ضده منذ أن استحوذت على تجمعات وأصوات وظلال الفعل الثقافي الشعبي، واستجمعت كل مقدرات الشأن الثقافي تحت مظلة المرجعيات المؤسساتية، إذ لم يتم التعامل حتى اليوم مع مفهوم الحرية الثقافية كأساس للتنمية. ولذلك لا يُتوقع الكثير من مؤسسات تعادي الإبداع وتنزع منه جوهره المتمثل في فكرة التلازم البنيوي بين الثقافة والديموقراطية. ولا تكتفي بذلك بل تحاربه بالتشريعات الرقابية وقوانين التضييق على الحريات.

على هذا الأساس يمكن النظر إلى تلك المتوالية من الجوائز كحلقة أخرى من حلقات مصادرة الإبداع والبحث العلمي، أو بمعنى أدق تهميش ذلك النوع من الإبداعات المتحررة التي لحساب الأشكال والأسماء المستأنسة، فمن يتأمل حال الكتاب العربي اليوم يجد أنه ينحى في جانبه الأهم إلى عدم إغضاب مفاعيل السلطة الدينية والسياسية والاجتماعية في الخليج، على عكس ما كان يحدث في الماضي، إذ آثر الناشر العربي، بحكم انتهازيته، ألا يخسر السوق الخليجية التي تشكل أكبر إيراد للناشرين العرب. وبموجب ذلك التواطؤ اللامعلن تم ترسيم قوانين وشروط ومحاذير ومواضيع الكتاب العربي.

عندما يتحول الخليج إلى سوق كبرى للكتاب لا يعني ذلك أنه صار مركزاً ثقافياً، وكذلك عندما تلوّح المؤسسات الخليجية بالجوائز فلا يعني ذلك أن المراكز الثقافية التاريخية قد تراجعت إلى الهامش، إلا أن القوة المالية الناعمة أحدثت انزياحات بنيوية عميقة في تفكير الإنسان العربي وفي منتجه الأدبي والفكري، كما نجحت بالفعل في تغيير صيرورة الفعل الثقافي على كل المستويات، إذ لا يمكن لمن يفكر في الفوز بأية جائزة من تلك الجوائز الكبرى أن يلامس تاريخ وعقيدة وسياسة وعادات وتقاليد القوم الذين يهبونها.

الجوائز الثقافية تتويج لفعل ثقافي تراكمي، وليس مجرد حال احتفالية بأسماء وأصوات يراد الاستحواذ عليها والتباهي بها. والمؤسسات الخليجية لا تمتلك أية خطة استراتيجية للتنمية الثقافية بقدر ما تطرح منظومة من العناوين المستهلكة، ولذلك يظل الفعل الثقافي الخليجي على كل المستويات الإنمائية والحقوقية، سواء في ما يتعلق بالتشريعات أم حرية التعبير أم حتى دعم الكاتب والكتاب في مرتبة متدنية. وهو الأمر الذي يجعل من تلك الجوائز مجرد حال استعراضية بمنجزات الآخر، فمن لا يقبل من مواطنيه وأبنائه مناقدة أحواله لن يقبلها من الآخر العربي.

المصدر

مجلة البابطين الثقافية الالكترونية
%d مدونون معجبون بهذه: