علي حسن الفواز
علي حسن الفواز

قراءة الشعر لم تعد آمنة، والشعراء لم يعودوا يثقون بالمجاز لتهريب أفكارهم المخاتلة، ونواياهم ضد الحكومات، أو ضد المقدس، فالشاعر يبدو مُرهَقا في اللغة، ومضنوكا في البحث عن استعارات صالحة للاختباء والتورية، وللإبقاء على الطراوة الشعرية التي تحمي القصيدة من «البهذلة» والتعويم والسطحية.
العودة للتاريخ لا تنفع أيضا، فالشعراء الكبار أكلوا العنب والحصرم، وربما أكلوا الحقل كله، وما عاد هناك من زاوية صالحة للمناورة، أو لممارسة شغف «الفردنة»، وحتى لاستعادة أدوات التاريخي في مواجهة نزق الحداثة، والنزوات الطائشة لأطروحات ما بعد الحداثة، وليجد الشاعر نفسه وحيدا، ضالا، باحثا في طرق المعرفة الصاخبة عن إشارات للعبور أو للتجاوز، أو للهروب، وربما سيجد نفسه باحثا عن مُطهِرات ومُعفِرات لسانية، تقيه من علل ومكاره النقد الثقافي، الذي صار أكثر قسوة وإرهابا من «النقد الادبي».
كما أنّ الاتكاء على قصيدة النثر لم يعد اتكاءً باعثا على الثقة والاطمئنان الكاملين، لاسيما أن قصيدة « التفعيلة» القلقلة لم تكن تملك وسائل الخلاص الكامل، فقد ظلت قصيدة ملفقة في عروضها وفي غوايتها وغنائيتها، والشاعر يبقى فيها مناورا ومخادعا ومسكونا بغواية الصوت والوزن، وكأنه يخجل من المجاهرة بالهروب من مركزية الشطرين، ومن عمودها، كما أن هذه قصيدة ذاتها، ظلت رغم كل منجزها العريض قصيدة مارقة عن المزاج العربي، وتحتاج إلى كثير من العصف اللغوي والفكري، وإلى شيء يشبه الرؤيا، لتبرير الحديث عن السحر الداخلي، أو الكثافة والمجانية، وحتى القصدية، وهي قضايا حاولت سوزان برنار أن تطرحها بوصفها خيارا فرنسيا للتطور الشعري، ومحاولة لتبرير ما أنجزه بودلير ورامبو وأبولينير، وفي مرحلة لاحقة سان جان بيرس وبونفوا ورينيه شار وستيتيه وغيرهم، لكن ما صنعه أدونيس يظل بالنسبة لنا هو الأكثر مكرا في تاريخ هذه القصيدة، وفي تسويقها، إذ سحب البساط – عبر الترجمة – من برنار، وأعطى لهذه القصيدة مزاجا فائقا، وتركيبا تجاوز فيه المألوف، حتى باتت الترجمة الشعرية لهؤلاء هي فضاء اللعبة الأدونيسية الأكثر خطورة، وربما الأكثر تأثيرا على المزاج العربي، بوصفه مزاجا نسقيا ومسكونا بشغف لا واعٍ للميل العميق نحو الغنائية.
اللاأمان في التعاطي الشعري قد يكون رهانا طاردا، يقوم على استدعاء خطاب الرواية، بوصفه خطابا متعاليا، إنقاذيا وتطهريا، وبوصفه أكثر اشتباكا مع سرديات الحياة، بعيدا عن لعبة الاستعارة والمجاز والبيان والبديع، وغيرها من حذلقات اللغة ودسائسها، فالرواية في هذا السياق يمكن أن تكون البديل التمثيلي عن التاريخ، وقد يضعها البعض بديلا عن الشعر أيضا، رغم صعوبة ذلك، فمازلنا نملك من الشعراء أكثر من امتلاكنا من العسكر! مثلما أن التاريخ يملك كثيرا من الحكواتيين والحكّام، والرواة والدعاة، وغيرهم ممن اصطنعوا لهذا التاريخ سرديات كبرى، ونصوصا مركزية، واخضعوه في النهاية لسلطة ولاية الأمر، فباتت موضوعات السرد والتأويل والتصديق أو التكذيب جزءا من مسؤوليات الحاكم، ومن صلاحيات الفقيه والواعظ. هذا المعطى الضدي أعطى للرواية سلطة سرية، ولأنها أصبحت تملك أهلية البديل أو الضد من التاريخ، فإن رقباءها ودعاتها صاروا نقادا ومحللين وأكاديميين، وان الجوائز الممنوحة لها اتسعت، وفاقت كل الأجناس الأخرى، لكنها ظلت- رغم ذلك- مرهونة بحسب الرسالة الأيديولوجية التي تحملها وترسلها.

الشعر وسط هذا التقاطع، والتوظيف المشبوه ظل وحيدا، ولم ينفع كل ترياق المابعد! من إنقاذ القصيدة من الضياع، ومن إعطاء الشاعر فانوس ديوجين لكي يضيء عتمة النهارات، فالذهاب إلى المفارقة، بما فيها المفارقة الإجناسية صار أمرا ضاغطا، وباعثا على إعادة النظر بمفهوم الشعر، وبوظائفه، وبقدرته على أن يمارس وظيفته الخبرية القديمة، أو وظيفته الجمالية الجديدة، وهو ما نجده رهانا على موضوع هوية الشعر، وطاقة الشعراء لكي يقاوموا هذا الزحف السردي، والتواطؤ السردي، لاسيما بعد ما حدث ويحدث في «المدينة العربية» المدينة التي تقتل شعراءها، أو تؤجرهم، أو تطردهم، ليس لأنها مدينة مزيفة، أو مشبوهة، بل لأن الحاكم فيها يحتاج إلى المزيد من الحكي، والزيف، والميثولوجيا والسحر، وأن نظرته لوظيفة الشعر لا تخرج عن كونه جزءا من الإعلان والدعاية والمدائح، وأن وظيفة صناعة الأفكار هي مسؤولية لها احتكاراتها وفقهاؤها الذين لا يغادرون التكايا إلّا الى قبورهم أو إلى منافيهم.

الشعر بين سلطة اللغة وسلطة الخطاب

سيرة التحوّل في الشعر العربي بدت وكأنها سيرة ملعونة، تتكشف عبرها تحولات وصراعات، وحروب وإكراهات، فشاعر البادية لا يشبه شاعر المدينة، وشاعر الأيديولوجيا لا يشبه شاعر الذات، وشاعر الولاء لا يشبه شاعر المعارضة. كل هذه اللعنة كانت رهينة بالسياسة، وبالصراع الاجتماعي والثقافي، رغم أن جوهر هذا التحول الملعون لم يكن بعيدا عن اللغة، بوصفها نظاما للتفكير والتواصل، أو نظاما علاماتيا ورمزيا يعكس ما هو عميق في الحاجات، وفي أنظمة المعيش والفكر.
لذا كان من أخطر معطيات التحوّل في فهم الشعر هو ما حدث في اللغة ذاتها، وفي تقانات تداولها في طبائع أهلها وتنوع أغراضهم، وفي تشظي وحداتها النحوية والبلاغية، التي كثيرا ما كان يستند إليها الشعراء في صناعة جملهم الشعرية والنحوية، وفي توسيع مديات الاستعارة والمجاز من خلال اللغة، وكذلك في صناعة صورهم الشعرية، وهي صور لا تخرج كثيرا عن الاستعارة والمجاز أيضا. فما أنجزه دوسوسير كان نوعا من الثورة اللسانية، إذ لم يعد هناك أفق سانح للحديث عن النحو وعن البلاغة، فالكل دخل تحت مسمى علم اللغة، وصارت القراءة تنطلق من مستويات عدة، أولها المعجمي، وأوسطها التركيبي وآخرها الجمالي، وهو ما يستوعب الأسلوب والمجاز والاستعارة وغيرها.
الدفاع عن الشعر إزاء هذا المعطى يكمن في إعادة تأهيل مستويات اللغة تلك، لتكون بمستوى فعل الكتابة، وبقدرة هذه الكتابة على إحداث الأثر، وعلى صياغة مستويات أكثر تأثيرا في التلقي، وفي تحويل سلطة اللغة إلى سلطة الخطاب، وهو ما يعني دخولها في الممارسة الاجتماعية، التي تعني ممارسة التراسل والتمويه، والاستعارة والتورية، التي ظل الشعر مندفعا إليها، انحيازا للتأويل وبحثا عن الحقيقة، أو البحث عن الأسلوب بوصفه دالة الجمال الشكلاني، وهو مهم في صناعة الخطاب.
دأب الشعراء على المغامرة يعكس دأبهم في البحث عن المغايرة، والمختلف، وتجديد أدوات الخطاب، ليس لأنّ الشعر أكثر الأجناس عرضةً للتغاير، بل لأنه الأكثر تعبيرا عن الوجود، بوصف الوجود هنا نظاما للتفكير، ونظاما للخطاب ذاته.
مفهومنا للحداثة لا يخرج عن اللغة، وعن الشعر بشكل خاص، ولكون الشعر يتطلب عناية استثنائية، فإننا كثيرا ما نقع في المحظور التاريخي، أي نكرر إنتاج الأشكال والأساليب، وحتى الإشاعات الشعرية، لذا كان الظهور السريع للرواية كفعل خطابي يتأتّى من خلال البحث عن التعويض النصوصي، وعن الإشباع الخطابي، لاسيما أن العقل العربي، لا يطمئن للنقد كثيرا، لذا كانت الرواية هي البديل الجاهز والسريع لمواجهة التاريخ، ولمواجهة الشعر الذي ظلت مشاريع تحديثه ضعيفة، إزاء ما يحدث في المعارف والأفكار، وحتى في السرديات التي تحولت إلى «تاريخات» موازية، أو بديلة، حدّ أنّ الهوية السردية والزمن السردية والمكان السردي والشخصية السردية صاروا أكثر حضورا من التاريخ والواقع..

المصدر

مجلة البابطين الثقافية الالكترونية