العربي الجديد -محمد الأرناؤوط )
من أيام يوغسلافيا السابقة، التي شهدت انفتاحا ثقافيا على “العالم الثالث” ضمن حركة عدم الانحياز، انطلقت مهرجانات شعرية أصبحت لها سمعة دولية مثل “أمسيات ستروغا الشعرية” (نسبة إلى بحيرة ستروغا في جمهورية مكدونيا الشمالية الحالية) التي انطلقت في 1961، ومثل “أيام سراييفو الشعرية” التي شهدت حضورا بارزا لـ شعراء عرب معروفين مثل محمود درويش وأدونيس وعبد الوهاب البياتي وغيرهم. ومن ذلك شكّل حضور محمود درويش في مهرجان سراييفو 2008 حدثا استثنائيا مع منحه أعلى جائزة والاحتفاء به بشكل استثنائي، وهو الحدث الذي لم يحظ بما يجب من التغطية آنذاك في وسائل الإعلام العربية.
ولكن مع انهيار يوغسلافيا خلال 1991-1999 حافظت الدول التي استقلت (في هذه الحالة جمهورية البوسنة وجمهورية مكدونيا الشمالية) على المهرجانين المذكورين وبرزت مهرجانات شعرية جديدة تغطي مساحات لغوية وثقافية عابرة للحدود.
ومن هذه المهرجانات التي تستحق التوقف عنها “أيام نعيم” Ditët e Naimit (نسبة إلى الشاعر الألباني المعروف نعيم فراشري 1846-1900) الذي يعقد كل سنة في شهر أكتوبر ما بين مكدونيا الغربية (ذات الغالبية الألبانية) وشمال ألبانيا المجاورة.
ويمكن القول إن هذا المهرجان جاء لينافس “أمسيات ستروغا الشعرية” الذي يُعقد منذ 1961 وشارك فيه حوالي أربعة آلاف شاعر من 95 دولة، وكان ممن شارك فيه ومنح جائزته الأولى (الإكليل الذهبي) محمود درويش وأدونيس.
وبالمقارنة مع مهرجان “أمسيات ستروغا الشعرية” الذي يمثل الدولة بمعاييرها المختلفة خلال العقود الماضية؛ جاء هذا المهرجان الجديد (أيام نعيم) بعيد استقلال “جمهورية مكدونيا” في 1998 ليعبّر عن المتغيرات الإقليمية الجديدة. فافتتاح هذا المهرجان يتمّ في مدينة تيتوفو، المركز الأكاديمي والثقافي والسياسي لمكدونيا الغربية ذات الغالبية الألبانية، ولكنه ينتقل في اليوم الثاني إلى مدينة مجاورة في ألبانيا المجاورة (هذه المرة كانت كورتشا) ليقدّم فيه الشعراء قصائدهم في إطار أوسع، مع استعراضات فلكلورية وأمسيات موسيقية تعبّر عن ثقافة المنطقة.
وهكذا يتميز هذا المهرجان بأن الشعراء المدعوين يتمّ التعريف بهم مسبقا في مختارات من قصائدهم في كتاب مع نبذة عنهم في اللغة الألبانية، بينما يتمّ إلقاء القصائد أولا في اللغات الأصلية ثم تُلقى في الألبانية من قبل ممثلين متخصصين في الأداء الصوتي، مع خلفية موسيقية واستعراضات ثقافية بين الأمسيات (عروض كتب جديدة ورقص شعبي والتعرف على المطبخ الشعبي الخ).
جاء إصدار هذه السنة للمهرجان الثالث والعشرين الذي انعقد خلال 18-22 تشرين الأول/ أكتوبر تحت عنوان “شجرة الظل” (170 صفحة) مع مقدمة للشاعر بسنيك مصطفى، وزير الثقافة الأسبق في ألبانيا.
في هذه المقدمة أكد مصطفى على أهمية هذا المهرجان بالنسبة للشعراء الألبان في مكدونيا الشمالية وألبانيا وكوسوفو المتجاورة، وبالتحديد في إخراجهم من العزلة التي كانوا فيها وتفاعلهم مع مسارات الشعر العالمي مع استضافة مئات الشعراء (أكثر من 400 شاعر) من مختلف قارات العالم الذين جاؤوا للمشاركة في هذا المهرجان منذ تأسيسه حتى الآن.
وإذا ألقينا نظرة على المشاركين في هذا المهرجان، كما هو وارد في الإصدار الـ 23، نجد 35 شاعرا وشاعرة من كل قارات العالم مع الاختلاف في التمثيل من حيث الكم والمستوى. فمن هؤلاء لدينا عشرة شعراء من البلقان (مكدونيا الشمالية وكوسوفو وألبانيا والبوسنة وبلغاريا واليونان) وشعراء من أوروبا (ألمانيا وإيطاليا واليونان وفرنسا وبريطانيا) وأميركا الشمالية وأميركا الجنوبية وصولا إلى جنوب شرق آسيا حيث لدينا شاعرة من بنغلاديش (آمنة رحمن) وأخرى من ماليزيا (ستي رقية هاشم). ومن الملاحظ هنا وجود ظاهرة الشعراء العابرين للجنسية أو ممن يحملون جنسيتين مختلفتين. فلدينا هنا الشاعر لوان بوشكاي (كوسوفو/ هولاندا) وجان دوست (كردستان/ ألمانيا) وتانيا كو هونغ (كوريا الجنوبية/ الولايات المتحدة) ومحمد ربيعة (فلسطين/ الولايات المتحدة) وماريا بانايوتوفا (بلغاريا/ بلجيكا) وغيرهم، وهو مما يساهم في تنوّع الأصوات والخبرات المختلفة.
ولكن من ناحية أخرى هناك ثلاث ملاحظات تلفت النظر في المهرجان الأخير، وهي يتداخل فيها ما هو سياسي مع ما هو مهني.
أما الملاحظة الأولى فتتعلق في غياب الشعراء من ثلاث دول مهمة في الخريطة الشعرية والثقافية والسياسية المحيطة بالدولة التي تحتضن هذا المهرجان الشعري (مكدونيا الشمالية) وهي تركيا وصربيا وروسيا. فتركيا الدولة تعتبر مكدونيا الشمالية حديقة خلفية لها وتحرص على تعزيز وجودها الثقافي فيها، حتى أن رئيس الحكومة السابق أحمد داود أوغلو كان يقول إنه يشعر كأنه في استانبول حين يمشي في العاصمة سكوبيه، وفي الوقت نفسه تبدو تركيا الدولة الآن في “شراكة استراتيجية” مع روسيا وصربيا. ولكن في مكدونيا الشمالية لدينا بين الألبان تيار يرى في تركيا “الدولة العثمانية” فقط التي أخضعت الألبان عدة قرون مقابل تيار آخر يتماهى مع الأتراك سواء كانوا عثمانيين أم أردوغانيين.
وتتعلق الملاحظة الثانية بمستوى التمثيل للمناطق أو للآداب الكبرى. فإذا استثنينا محمد ربيعة (لم نعثر على نصوص أو ذكر له حتى على محرّك البحث) المقيم في الولايات المتحدة، فإن “الشرق الأوسط” يقتصر تمثيله على شاعرة واحدة من “إسرائيل”! وفي المقابل نجد أن الشعر العربي على امتداده الجغرافي الواسع وأصواته الكثيرة التي أضحت معروفة يقتصر على “الشاعر” الفلسطيني/ الأميركي محمد ربيعة والتونسيين عبد الكريم خالقي وآمنة ساكوهي.
وإذا استثنينا أسماء مجهولة مثل محمد ربيعة وآمنة ساكوهي، التي يرد في التعريف بها أنها تخرجت من قسم اللغة الفرنسية وأدبها في 2015 وتعمل في الترجمة دونما ذكر لمجموعة شعرية لها؛ فإن عبد الكريم خالقي يمثل ظاهرة مهرجانية كما هو الأمر مع “الشاعر” شعيب أمر الله مدير المهرجان منذ انطلاقته في 1998. والأمر يدعو إلى الاستغراب هنا لأن في المدينة التي ينطلق فيها هذا المهرجان الشعري (تيتوفو) ثمة قسما للدراسات الشرقية في الجامعة الحكومية، ويفترض أن يكون ثمة حد أدنى من التواصل والتشاور.
أما الملاحظة الثالثة فتتعلق بالعلاقات العامة أو بالشهرة المهرجانية للشعراء الذين يصبحون مشهورين أكثر من غيرهم في ترجمة أعمالهم إلى اللغات الأخرى. فهناك “شعراء” و”شاعرات” يعرفون كيف يصلون ويشاركون دائما في المهرجانات الشعرية بما لا يتناسب مع تواضع مستواهم الشعري، وكيف يحرصون على التعرّف على مدير المهرجان وترجمة بعض قصائده (بغض النظر عن مستواه الشعري أيضاً) إلى لغاتهم عندما يعودون إلى بلدانهم. وبهذا الشكل يصبح مدير المهرجان شعيب أمر الله من أكثر الشعراء الألبان ترجمة إلى اللغات الأخرى، أي أنه أكثر شهرة (بهذا المعيار) من كبار الشعراء الألبان سواء في ألبانيا أو في كوسوفو.
ومع التقدير لما وصل إليه هذا المهرجان الشعري (أيام نعيم) في دورته الثالثة والعشرين فإن الملاحظات المذكورة تفترض قبل الوصول إلى الدورة الخامسة والعشرين في 2021 مراجعة التجربة وإعادة النظر في بعض المعايير لكي تكون المشاركة تحمل إضافة نوعية، بغض النظر عن عدد المشاركين، وإعطاء الأولوية للثقافة وليس للجغرافيا والسياسة.
* باحث ومترجم من كوسوفو