يقدّم السوري راهيم حسّاوي في روايته “الشاهدات رأساً على عقب” الصادرة عن منشورات “العين بالقاهرة 2014″، مشاهد ومفارقات من حياة معطّلة في بلد يبدو وكأنه ينتعش بهزيمة بنيه، ينهض على قبورهم، يدمّر رغباتهم، ويحطّم آمالهم، وذلك لأنه يقاد بذهنية تفقده جلاله وجماله، وتحوّله إلى مقبرة مفتوحة مشرعة على الدفن.
يصوّر راهيم جانباً من الأحلام المكفنة برغبات الحالمين، والأوهام المضخمة في عيون المعدومين، وذلك عبر الراوي العليم، الكليّ المعرفة، جابر الذي ينتقل من مكان إلى آخر، من شخصية إلى أخرى، ينقل معه أزماته المتفاقمة، يطلق سهامه شرقاً وغرباً، يعيش قلقاً متجدداً، وتكون القلاقل المستعرة من نصيب المحيطين به، فالمدينة غير المسمّاة مفعمة بالجمر تحت الرماد، الموتى فيها يناجون الأحياء، والأحياء فيها يعطّلون الركب ويختلقون الذرائع للقعود دون تحقيق الأمنيات والأحلام.
ينطلق راهيم في عالم شخصيته الداخلي من صالون الحلاقة، وحديث المرايا الذي يعكس حديث السارد الداخلي وتلبيسه للأشياء لبوسه الخاصّ، وتغليفه لها بنظرته إزاءها، فالمرايا عند الحلاق تعيد إنتاج الصور والوجوه والحكايات، وكأنها تتقيأ ذاكرتها، وهي شاهدة على مَن مرّوا ومَن سيمرّون، تنتصب في مكانها ولا ترتكن للنسيان أو الغفلة أو السهو، تظل ملتزمة بدورها الأزلي في تقديم الصور كما هي دون تجميل أو ترقيع.
وساوس وهواجس
من حديث المرايا وتكلّف الحلاق إلى سائق سيارة الأجرة وما يمثله من ذاكرة للمدينة التي تبدو غافية على وجعها المزمن، يرتحل من حيّ إلى آخر، يحدثه عن الركاب الذين يقلّهم، وعن المآسي الحاضرة دوماً في كل زاوية وعند كل منعطف، يكون بدوره شاهداً على ما يجري بحق العاصمة وأبنائها، وتكون سيارته شاهدة على الإجرام المتشظي في كل الأرجاء، تصول وتجول وتكشف الأسرار.
ثم يكون التنقل تالياً بين عدة أمكنة أخرى كتصوير جانب من المجالس في البيوت أو المدارس، وما يعترك في تلك الأمكنة من وساوس وهواجس، وما تستبطنه من إشكاليات تستعصي على الفهم لما تشتمل عليه من نقائض، حيث الفكرة تحمل بذرة خلافها وتناقضها معها، وذلك في مسعى للتخلص من العقد المتراكمة بفعل قوى معلومة يتم التعتيم عليها ظاهرياً، لكنها مكشوفة للجميع عملياً.
“تتكاتف الشواهد لتقدم حكاية نسف البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في البلد، وتحولها إلى مقبرة متشعّبة متناثرة “
الأمكنة تكون شاهدة أيضاً على الخراب والخواء، على الهجر والنسيان، تتكاتف الشواهد لتقدّم حكاية نسف البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في البلد، وتحولها إلى مقبرة متشعّبة، متناثرة، بحيث تكون القبور متشاهقة على طول البلاد وعرضها، ويكون البناء المفترض تشييداً لأسوار المقبرة، وإعلاء للشاهدات التي تظل أسيرة التكميم والتأثيم.
المقبرة هي ملاذ الشخصيات، هي الواقفة بشاهدات القبور المترامية المنتشرة في كل مكان، تعكس صورة البلاد التي تحولت إلى مقبرة مفتوحة فاغرة فاها، وكأنها الجحيم الأرضي الذي يبتلع الجميع. وبين القبر والآخر يقف شاهد شهيد، يكون دليل الذات إلى الراحلين، وإنذاراً للأحياء بقرب الأجل، وهذا مع ما يبثّه من حماقات ووصايا وأحكام وعبَر.
يسيح راهيم ببطله بين معالم المقبرة التي تملأ أرض المدينة وتمنع استقرار الحياة فيها، يمر بالشواهد ترنو إليه، تستوقفه، تحاكيه، تتبادل معه الأسى والقهر، يكون في التحدث إليها شيء من المواساة المفقودة، والمصابرة المفروضة، بانتظار الانفجار الحتمي للبركان الذي لن يستثني أحداً من حممه.
“الشاهدات رأساً على عقب” تنبش في ركام مدينة، وحطام حضارة، تنقّب في أرض مقبرة، وتكون الشخصيّات التي تتلافى السقوط غير مدركة مأساتها وأنها تعيش وهم الحياة ورغبة غامضة تكويها وتجعل طعم الزمن مريراً، بحيث تحمل قهرها إلى كل مكان تلوذ به.
مسوّدات الكوابيس
الملهاة عند راهيم تحضر في حلّة مأساة، البسمة تحضر في سياق السوداوية والتشاؤم، قلق الرحيل يتزامن مع صهيل الحزن ونجوى الانتظار. ولا يجدي التشبث بالحياة في مواجهة لعبة القدر المنهكة، وخيبات الواقع المتتالية.
“ما الذي يحرّك الراوي الذي يشعر بالغربة في حلّه وترحاله في بلده؟ أين يمكن أن يشعر بشيء من الراحة والسكينة والهدوء؟ كيف يشهد الخراب وتعاظم المقبرة دون أن يساهم في إيقاف الجريمة المرتكبة؟”
يقف بطله المكسور، الذي لا يبدو أنّ له من اسمه نصيباً كبيراً سوى جبره لقلوب بعض أصدقائه، ينظر إلى الأسفل، تحدّثه الهاوية، تناجيه للالتحام، يظل ملتصقاً بالأرض ومسمراً برغبة الحياة، لكنه يستطيل ويفقد الشعور للانطلاق نحو برزخ لا يتجلى فيه المصير إلا بالانفتاح على عتمة لاحقة محتمة.
يكون ديدن بطل راهيم البحث عن الأمان وسط غابة من الموتى، البحث عن التهدئة في قلب النيران المستعرة. وينطلق في أحكامه ورؤاه، يسبغ على نفسه الصفات ويتماهى مع صاحبه في التمنيات، يفتح كوة على الداخل، يقوم بتظهير مسوّدات الكوابيس الجاثمة على الصدور. والشخصيات الحاضرة (رشاد، وكنانة، ومنار، ورضوان.. وغيرهم)، تظل حاشرة متخبطة غارقة في أحزانها وقهرها.
ما الذي يحرّك الراوي الذي يشعر بالغربة في حلّه وترحاله في بلده..؟ أين يمكن أن يشعر بشيء من الراحة والسكينة والهدوء..؟ كيف يشهد الخراب وتعاظم المقبرة دون أن يساهم في إيقاف الجريمة المرتكبة..؟ ألا تشهد الشاهدات التي تقدّم على أنّها مقلوبة على انقلاب الظروف والوقائع والافتراضات..؟
تحمل رواية حسّاوي، وهي الأولى له بعد عدة أعمال مسرحية، مغامرة التجربة الأولى وسعي الكاتب لضغطها بالأفكار التي تبدو محمّلة للشخصيات، ومقحمة بعض الأحيان، طاغية على الأحداث والعناصر الأخرى التي يفترض أن تصاحبها، حيث الحبكة تتلخّص في ارتحال الشخصيّة من حادثة إلى أخرى مع مصاحبة التفلسف في كل متغير مستجد.