كان يخالجني شعور بالبهجة والسرور منذ أن أعلن بعض الكوادر المثقفة عن فتح المكتبة الوطنية في مقديشو، و تعهدت وزارة الخدمات الاجتماعية على لسان وزيرتها الدكتورة مريم قاسم ضمن خطة محكمة لترميم وإعادة فتح المكتبة، ولكن في نفس الوقت كان ينتابني الشك والريبة في تنفيذ ذلك المشروع النبيل خشية أن يكون مثل الوعود الكثيرة التي سمعناها من الساسة والقيادة الصومالية مراراً وتكراراً قرابة العقدين الماضيين؛ والتي كانت مجرد كلام وثرثرة دون النزول إلى الأرض الواقع.
وبالرغم من أنّ الذين أسند إليهم أمر تنفيذ المشروع أمنآء من أصحاب الثقل الثقافي ومن صروح العلم والمعرفة في بلادنا، ومع ذلك ما زال البعض يراودهم الشك والخوف من أن يتحول المشروع إلى عالم التجارة والربح وأغراض الذنيا. رغم أنّه ملك للأمة على اختلاف انتماءاتهم وهوياتهم…وتساءلت عن علاقة المكتبة الوطنية بالسياسة ومآرب الذنيا وأغراضها؟ اللهم إلا فيما يتعلق بتنفيذ المشروع وترميم مبنى المكتبة الذي لحق به دمار هائل؛ والذي قد يكلف أموالا قُدرت بحوالي أكثر من مليونين دولار.
ومما يثلج الصدر ويزيل الكدر، بل ويبعث الأمل ويرجح التفائل أنّ هناك ترحيب دولي وإقليمي لذلك المشروع الثقافي، كما أنّ هناك بعض الجهات التي أعلنت عن دعم المشروع فور سماعه، سواء في الأوساط الإقليمية والدولية مثل اتحاد الناشرين العرب وبعض المكتبات العامة والخاصة في وطننا العربي، كمكتبة الإسكندرية التي أقامت حفلا كبيرا لدعم المكتبة الوطنية في الصومال.
وفي خطوة موازية تلك المبادرة التي تقدم بها معهد هيريتيج للدراسات السياسية والثقافية برئاسة السيدة زينت محمد حسن؛ تمّ إطلاق مبادرة أخرى لتدشين مكتبة وطنية في هرجيسا بأرض الصومال، غير أن الرائد لهذا الأمر هو الصحفي الصومالي العالمي السيد راغي عبد الله أومار ؛ الذي دعا إلى تأسيس مكتبة وطنية في مدينة هرجيسا بأرض الصومال في حفل بهيج أقيم في العاصمة البريطانية لندن، وأشار إلى أهمية ذلك في أوساط المثقفين ولاسيما في الأجيال الصاعدة، وقد رحبت الوزارة المختصة في إدارة أرض الصومال على لسان وزيرتها السيدة زمزم عبدي آدم، ونادت إلى تأييد هذا المشروع الحضاري مادياً ومعنوياً.
والجدير بالذكر أن عدداَ من المؤسسات الثقافية العربية والأمريكية والأوربية كالسويد والنرويج قد رحبت وعبرت عن رغبتها في المشاركة في هذه الحملة التي تهدف إلى توفير بأكبر عدد ممكن من المصادر والمراجع وما له صلة بالبحث العلمي والنمو الفكري للمجتمع الصومالي.
ومنذ هذه المحاولات حصل حوار حاد في داخل نفسي حتى اشتدّ صخبه بشدّة، وارتفع حميه بحرارة، وبل وكادت أن تكون إرهاصات ذلك الحوار والصراع الداخلي كابوسا على تفكيري. والحق أنه لم يهدأ بالي حتى التقيت بلفيف من المثقفين من أهلنا في أوسلو بملكة النرويج وعلى رأسهم الأستاذ عبدي يوسف فارح – الباحث الفطن والصحف المحنك- وفي تلك الأمسية الجميلة أبديتُ شعوري تجاه المكتبة الوطنية وإعلان فتحها من جديد، وأبرزتُ هاجسي تجاه هذا الأمر وما ينبغي أن تكون المكتبة بعد فتحها إن شاء الله بثوب قشيب وبلون جديد؛ بحيث لا تكون مجرد مكتبة ومباني ذات جدران يرتاد إليها القرآء ولمن يريد المطالعة والقرآءة وإعارة الكتب فحسب، وإنما ينبغي أن تكون على نحو المطلوب والمناسب لظروف مجتمعنا في أزمته الراهنة، وعلى منوال المكتبات العالمية أو أقرب إليها في النواحي الحضارية والثقافية. وقبل أن ينفض اللقاء طلب مني بعض الإخوة كتابة مقالة توضح ما نراه مناسبا حتى يستفيد منها غيرنا.
وبحكم تخصصي في التاريخ والحضارة أبت نفسي الخوض في الموضوع دون أن استلهم لتراثنا الحضاري وتاريخنا المجيد بعيدا عن البكاء على الأطلال.
ولا ننسى أنّ المكتبة الوطنية تمّ افتتاحها لأول المرة في عام 1986م على الرغم من أنّ محاولة افتتاحها كان قبل ذلك بكثير؛ حيث كانت الحاجة إليها ماسة منذ عام 1975م، وبعد نجاح فتح الجامعة الوطنية بقيادة صاحب المعالي الدكتور شريف صالح محمد علي، أول رئيسها بعد إنشائها، ثم وزير الثقافة والتعليم العالي في منتصف السبعينات في القرن المنصرم، وكان قبل ذلك تدور مناقشات ومحاولات ترمي إلى إيجاد مكتبة علمية تكون عونا للباحثين ولطلبة العلم في البلاد، والحق أنه منذ ذلك اليوم باتت المكتبة وممتلكاتها ملكا للجميع تخدم للعباد على حد سواء، وترفع مكانة البلاد طالما تخدم العامة دون الخاصة، ويشمل القاصي والداني بعيدا عن أن تستأثر فئة بعينها، مهما علت أصواتهم وقويت شوكتهم.
ولكن بعد انهيار الحكومة الصومالية تمّ تدمير البنية التحية للبلاد شماله وجنوبه شرقه وغربه، بما في ذلك الأروقة العلمية والصروح الثقافية والحضارية، بما في ذلك المكتبة الوطنية والمتحف القومي وكذا أكاديمية الآداب والفنون التي كان يعج بها تراث حضاري كبير، غير أنّ النتيجة باتت النهب والسلب، بل وأضحت الكتب والوثائق ومصادر المعرفة على أيدي الباعة وأهل الأسواق والتجارة لاستعمالها لأشياء تافة كمناديل للمطاعم، أو كأوراق عادية للدكاكين والمخازن والحوانيت، ولو كان المستعمَل عقود تجارة مبرمة بين الدول في العصور الغابرة، أو اتفاقيات دولية ومواثيق عالمية، وسواء عقود البيع أو النكاح، وما إلى ذلك.
وفي عام 1995م ناديتُ المعنيين في مقال نشر في جريدة ” المسلمون” تحت عنوان” من ينقذ الآثار الإسلامية في الصومال” بعد تجوالي بمقديشو وضواحيها وعلى ضفاف نهر شبيلي، وعقب أن رأينا الحالة البائسة لهذا التراث الحضاري الذي يمتدّ ينبوعه من مراكز الخلافة والريادة في الحجاز والشام والعراق، ولكن لم يكن أحد يستجيب النداء – وما أكثر النداءات الصومالية وعويلهم- ولكن لا حياة لمن تنادي في عالمنا الإسلامي. وحضارتنا العربية والإسلامية لها تراث عريق وماض عميق نستشفّ من خلاله الكنوز الثمينة والفنون العديدة المخبأة في جوفه بغية ربطه بواقعنا الحاضر المتوهج ولكي نستنير به على الطريق ولنسعد به في حياتنا.
وعلم المكتبات علم قديم وفن رائع له مكانة رفيعة في الحضارة الإسلامية، وقد اعتنى به أهل الإسلام عبر عصورهم التاريخية الزاهية، وقد بذلوا في تأسيسه حتى انتشرت المكتبات في جميع ربوع الخلافة الإسلامية المترامية الأطراف في المشرق والمغرب وفي بلاد الأندلس، وشدّ إليها الرحال القاصي والداني. ونرجو أن تكون المكتبات المراد إعادة فتحها والجديدة منبعا للمعرفة وسجلا لتراثنا الحضاري كما كانت سابقا في القرن الماضي.